من أبرز الخصائص التي يمتاز بها عالمنا المعاصر، الذي تطور فيه النظام العالمي وتعددت أدواته، تزايُد تأثير منظمات المجتمع المدني والمنظمات شبه الحكومية، إذ اكتسبت أهمية كبرى لأسباب متعددة، في مقدمتها أنها تعبر عن توجه المجتمعات، وتمتاز بالمرونة في الحركة، نتيجة تحررها من أعباء البيروقراطية التي تعانيها نظيراتها الحكومية.
لذلك، تحولت إلى صوت حقيقي يعبّر عن تطلعات الشعوب والمجتمعات، ويحمل همومها، ويترجم آمالها، ويوصل رغباتها إلى قادتها وللمنظمات العالمية. ومن الضرورة إيضاح أن تخلُّص تلك المنظمات من قيود الروتين الحكومي وتمثيلها المجتمعات لا يعني أنها تسعى إلى تقديم نفسها كجهات منافسة لأجهزة الدول التي تعمل فيها. فهي رغم ذلك أدوات مساعدة -في كثير من الأحيان- لحكومات بلادها، وذلك بسبب قدرتها الكبيرة على التحرك. فالبحث عن الحقيقة والوقوف إلى جانب الحق لا يستلزمان بالضرورة الصدام. ونتيجة المصداقية التي تتمتع بها تلك المنظمات، وقوة التأثير الذي تمتلكه، فقد تعاظم نفوذها في مختلف دول العالم، وباتت إحدى الأدوات الرابحة ذات الدور الكبير في المجتمعات.
والمتابع لتأثير تلك المنظمات، يجد أن أشهرها وأكثرها حضورا على الساحتين الإقليمية والدولية، هي تلك التي تعنى بالشأن الحقوقي، مثل منظمات حقوق الإنسان، وتلك المتخصصة في مجالات حقوق المرأة والطفل والبيئة، وعلى الرغم من أن كثيرا من تلك المنظمات الدولية أصبحت -للأسف- ذات أجندة سياسية قد يعلو تأثيرها على واجباتها الحقيقة التي أنشئت من أجلها، إلا أن ذلك لا يلغي أهميتها، ولا يقلل من قوة تأثيرها، لا سيما لدى أصحاب صناعة القرار العالمي. فكثير من القرارات التي تتخذ في مجلس الأمن الدولي، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وغيرهما من الجهات المشابهة، تبنى في الأساس على تقارير تصدرها تلك المنظمات.
الناظر إلى جهود المملكة في هذا المجال، يجد أنه رغم تشجيع الدولة للانخراط في هذا المجال، والجهود التي يبذلها كثير من المخلصين للّحاق بركب الدول التي سبقتنا، ابتداء من صدور نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وامتدادا إلى التوسع في الترخيص لعدد من المهتمين بممارسة العمل المدني، إلا أن جهود تلك الجمعيات تبدو غير متناسبة مع المكانة الكبيرة التي تتمتع بها بلادنا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، عطفا على مكانتها السياسية والاقتصادية المميزة، ووجودها ضمن مجموعة دول العشرين لأكبر الدول من الناحية الاقتصادية في العالم، إضافة إلى المكانة اللائقة التي امتازت بها المملكة وسط الدول العربية والإسلامية، بسبب سياستها التي تقوم على عدم التدخل في شؤون غيرها، والوقوف مع كل الأشقاء في تلك الدول، ومدّ يد العون إليهم، وقبل كل ذلك مكانتها الروحية الفريدة التي تمتاز بها على سائر دول العالم، بوصفها محط أنظار ما يفوق المليار ونصف المليار مسلم، ينتشرون في جميع قارات العالم، وتهوى أفئدتهم زيارتها وأداء شعيرتي الحج والعمرة، وزيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي. وهذه الخصائص أكسبت المملكة مكانة فريدة.
خلال الفترة الماضية، انتبهت رابطة العالم الإسلامي إلى أهمية دور المجتمع المدني، فبادرت إلى إنشاء الهيئة العالمية للحقوقيين، التي تعنى بالشأن الحقوقي في البعدين الإسلامي والإنساني، على أن يتفرع عنها مجلس عالمي للمحاماة ومركز دولي للتحكيم، وتقوم بالتنسيق وتبادل الخبرات مع الهيئات العالمية المماثلة. ونظرة سريعة إلى الإعلان الذي صدر عن الرابطة بهذا الشأن، كفيلة بأن تثير التفاؤل.
فالملاحظ، أن الهيئة لم ينحصر نطاق عملها في إطار الدول الإسلامية فقط، وتلك ناحية في غاية الإيجابية، إذ إن الوضع السياسي والحقوقي العالمي في الوقت الراهن يتصف بالتعقيد، وليس من الحكمة اقتصار العمل في نطاق جغرافي أو عقائدي معين، وهو ما يتماشى مع السياسة الرشيدة التي تتبعها الرابطة، والتي تقوم على تعزيز مبادئ الأخوة الإنسانية، باعتبارنا جميعا إخوة نتشارك الحياة في هذا الكوكب، مع التركيز -بطبيعة الحال- على دعم وشائج وأواصر التعامل مع الدول الإسلامية، ما دام ذلك لا يمثل دعوة إلى الانغلاق أو التقوقع أو الانكفاء على الذات.
في مقدمة الأدوار التي يتوقع من الهيئة الوليدة التركيز عليها -على الصعيد المحلي والإقليمي، إضافة إلى أدوارها الأخرى- تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع، وجعل ذلك جزءا أصيلا في المناهج الدراسية، حتى تنشأ أجيالنا المقبلة وهي مشبعة بتلك الثقافة الكفيلة بالقضاء على كل الظواهر السلبية، وفي مقدمتها آفة الإرهاب.
فعندما يعرف الإنسان حقوقه، فإنه سيدرك حتما الحد الفاصل الذي تنتهي فيه تلك الحقوق وتبدأ معه حقوق الآخرين، وبذلك نضمن اختفاء وتراجع أصحاب الشعارات والدعوات التي تنادي بالإقصاء والإكراه، وترتفع في المقابل أصوات التسامح والتعايش مع الآخر، ورفض التعصب، وإكساب المجتمع مناعة قوية ضد خطاب الكراهية، ونكون قد وضعنا البذرة الحقيقة لنشوء جيل جديد معافى من التشوهات الفكرية، وعملنا على تنمية الشخصية الإنسانية وازدهارها بأبعادها المختلفة، عبر ترسيخ الإحساس بالكرامة والحرية والمساواة والعدل الاجتماعي.
كما يرجى من الهيئة تعزيز قيمة العمل الطوعي، باعتباره لغة المستقبل، والأداة الأكثر قدرة على الوصول إلى المجتمعات المختلفة.
كذلك أتوقع أن تعنى الهيئة بالدفاع عن كثير من الدول العربية والإسلامية التي تواجه حملات شرسة، تقف وراءها أجندة سياسية، ارتدى أصحابها رداء العمل الإنساني، وتوشحوا بثياب الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية، وهم أبعد ما يكونون عن هذا الهدف النبيل، فلجؤوا إلى لَيّ أعناق الحقائق، ورؤية الأشياء من منظورهم الشخصي، وتقديم المصالح السياسية الضيقة على المبادئ الإنسانية، واستخدموا لافتاتهم البراقة كأدوات ضغط سياسي، لتحقيق أهداف خاصة ومكاسب آنية.
وحتى تكون الهيئة أكثر فعالية، فإن من الضرورة أن تكون مظلة تجتمع تحتها الجمعيات والمنظمات الحقوقية الموجودة في معظم الدول العربية والإسلامية، وأن تعمل على تطوير آلياتها ووسائلها، بالكيفية التي تمكّنها من تقديم النصح والمشورة لتلك الدول، لتعديل ما قد يتعارض في قوانينها وتشريعاتها ودساتيرها مع القوانين الدولية، حتى تتجنب مشقة الوقوع في ممارسات قد تكلفها الكثير. وهذا قليل من كثير لا أتوقع أنه غائب عن رؤية الرابطة، لكنها محاولة متواضعة للمشاركة، ولو من باب جهد المقل.
نقلا عن صحيفة الوطن السعودية