ساق الحنين زوار المهرجان الوطني للتراث والثقافة " الجنادرية 32 "، إلى عبق الماضي وتنفس أريج الأصالة عبر الوقوف على أقدم المساجد التاريخية التي شيدت خارج مكة المكرمة والمدينة المنورة ويعود تاريخها إلى بداية العصر الإسلامي، والتي أثبتت الدراسات والمسوحات الأثرية أنه في محافظة الأحساء بالمنطقة الشرقية.
ويقف زوار الجنادرية خلال مرورهم على الشواهد التاريخية لمسجد "جواثا" الذي يجسد بصورته وطابعه المعماري المسجد الذي بني في السنة السابعة للهجرة وتشرفت ببنائه بنو عبدالقيس"سكان البحرين" حينما بادروا بإسلامهم طوعاً لا كرهاً، وامتدحهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :" أكرموا إخوانكم فإنهم أشبه الناس بكم أسلموا طوعاً لا كرهاً" ، وقد روى أبو داود في كتاب الصلاة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبداللّه المخرميّ لفظه قائلا: ثنا وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة لجمعةٌ جمعت بجواثاء قريةٍ من قرى البحرين، قال عثمان: قرية من قرى عبدالقيس»، وهو قائم حتى الآن ويقع إلى الشمال من قرى الحليلة والكلابية والمقدام، إحدى القرى الشرقية في الأحساء.
ويمثل مسجد "جواثا" ثقلاً تاريخياً وإرثاً حضارياً وثقافياً وإسلامياً للمملكة العربية السعودية بشكل عام والمنطقة الشرقية بشكل خاص، الذي لا تزال قواعده منذ تلك الحقبة من الزمن قائمة إلى وقتنا الحاضر، وقد تآكلت بعضها عبر الأحداث التي تعاقبت على شبه الجزيرة العربية.
ويسعى المهرجان الوطني للتراث والثقافة الى تأصيل روح الانتماء لمثل هذه الصفحات الضاربة في عمق التاريخ من خلال بناء نماذج مختلفة كمصليات منتشرة في مواقع مختلفة بالمهرجان الذي حرصت إدارته أن تتقيد إمارات المناطق خلال بناء مصليات أن تكون المواد المستخدمة في البناء كالطين والحجر والخشب والطين من بيئة المنطقة نفسها لتبرز تراثها وتعرّج في آفاقه الرحبة بما يرقى لحس ومتابعة مرتادي المهرجان.
وتمثل مصليات الجنادرية القديمة ذات الطابع التراثي "الشرفيات" النجدية والحجازية التي تنتشر في مناطق المملكة المختلفة، وتبني "جامعها" التراثي وفقاً لتراثها العمراني السائد عليها، فهناك ما يمثل منها الطابع المعماري الحجازي والنجدي والقصيمي في جناح منطقة نجران , والتي تشتهر بطراز معماري جديد وجميل في المساجد يعكس تراث نجران بشكل خاص والمملكة بشكل عام.
وأعطى إنشاء المساجد والمصليات الأثرية وتواجدها بكثرة على أرض المهرجان , بعداً في الحفاظ على هوية وتراث المملكة من خلال التراث المعماري إلى جانب كونه تظاهرة تبحر في جميع أطياف التراث من بناء معماري وفنون شعبية وأدب وثقافة، حيث يمثل موقع كل منطقة من مناطق المملكة في الجنادرية مدينة حضارية ولوحة متكاملة العناصر تجمع بين جنابتها نماذج من ألوان التراث والأدب، ناهيك عن بنائها التقليدي وحرفها القديمة ورتم الحياة السائد فيها.
وتصاغ فكره تلك النماذج الحيّة للمساجد من واقع الآباء والأجداد ،وهذا ما يتعرف عليه الزائر للجنادرية ، فالمسجد له كينونة في المجتمع فهو في السابق مكان الصلاة والمدرسة ومكان الوعظ وتبادل النصح والإرشاد ، كما تكثر الأفنية والساحات لصعوبة البناء وعدم وجود مساحات كبيرة كمصليات العيد وهناك مساجد توضع لها أسقف من سعف النخل والجريد ، ومازالت بعض منها قائم في بعض قرى وهجر المملكة كونها تمتاز بالهدوء بعيداً عن ضجيج المدن ، حيث يتم تشييدها بالجنادرية لأنها وسيلة تذكار بالأقارب والجيران الذين إما أن يكونوا قد انتقلوا لأحياء أو مدن أخرى أو انتقلوا إلى رحمة الله ، فضلاً عن أنها تعيد للبعض ذكريات الطفولة والصبا وأيامهم القديمة في أحياء شهدت نشأتهم , كما انها تعرف الجيل الجديدة بما كانت عليه المساجد في الماضي , والذكريات الجميلة التي جعلتهم يقطعون المسافات من أجل أداء الصلوات في هذه المساجد الطينية التي انطلقت منها في الماضي قوافل العلم والمعرفة وتمتاز في كل بلد من البلدان بطابع ونمط معماري فريد يميزها عن غيرها.
ويتمثل حرص إدارة المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية في جعل المساجد الطينية مكتملة البناء بمواد قديمة تحاكي الماضي بعراقته وتوفير التكييف والصوتيات ودورات المياه الملحقة بها وفرشها بالحصير من الداخل ، وتغطي ساحاتها الخارجية بالتراب النظيف ، إلى جانب إضاءتها بالفوانيس القديمة .
وتتخذ إدارة المهرجان من المساجد الطينية وسيلة لاستهواء مرتادي المهرجان لروائح الطين الحاملة لذكريات الماضي بتفاصيله المختلفة ومعاينة امتزاج الماضي بالحاضر وقبل ذلك كله امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
ولا شك أن من أحب الأعمال إلى الله بناء المساجد، ويكمُن فضلها في إقامة الصلوات بها وقراءة القرآن الكريم وكتب السيرة.