أكد معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أن المواطنة عَقْدٌ سياسي واجتماعي نجد تفاصيله الآمرة في أحكام الدستور والنظام، كما نجد رُوحه الوجدانية المُلهمة (طواعيةً) في محاضن الأُسرة والتعليم التي عليها الرهان الكبير في تحقيق قيم المواطنة.
وقال في كلمته الرئيسية في ملتقى المواطنة الشاملة المنعقد في العاصمة الإماراتية أبوظبي بمشاركة شخصيات دينية وفكرية وسياسية أنه عندما تعتمدُ برامجُ المواطنة ترسيخَ مبادئها العليا كقيمة أخلاقية داخل نسيج المجتمع الواحد فإنها تأتي بالنتائج المنشودة في مواجهة تحدي الفجوات والفوارق في مجتمعات التنوع الديني والثقافي والعرقي، وكذلك في مواجهة حملات التمييز والكراهية بسطحية *تفكيرها* ومجازفاتها باستقرار أوطانها في زمن يُفترض أن يكون قد تجاوز بوعيه الديني والمدني تلك التصرفات الهمجية.
وزاد أن من مُسَلَّمات المنطق أن نتحدث عن المسؤولية التضامنية (في موضوع المواطنة) كركيزة أساسية في بناء الوئام والسلم المجتمعي بكافة تنوعه، حيث تظل المواطنةُ قاسماً مشتركاً بين الجميع لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة، فيما يجب على المؤسسات الحكومية المختصة السهرُ على هذه القيمة، ومن الخطأ أن يُقبَل من الأفراد أو المؤسسات أي تبريرات مهددة لسياج الوحدة الوطنية، وفي المقابل لابُدَّ من حماية الحُرّيات المشروعة وخاصةً ما كان منها مُعَزِّزَاً وداعماً للمواطنة.
وتابع إننا من هذا المكان نُقَدِّرُ فكرة وزارات الاندماج الوطني في دول التنوع الديني والعرقي لكن لا بد من المصارحة بأن بعضها يعاني ثغرات بسبب عدم المشاركة الكافية لجميع التنوع الوطني في صياغة برامجها حيث تنفرد بعض تلك الوزارات مستقلةً بوجهة نظرها الخاصة لتفرضها على الآخرين، ومن ثم يأتي اتهامها أحياناً بالفشل أو الانحياز السلبي والعنصرية، وأيضاً ربما غاب بعض هذه الوزارات عن الحضور المجتمعي بالفعاليات المعزِّزة للاندماج الحقيقي على حين كان يُفترض أن تُعْطِي باستمرار رسائل جادة وعملية تؤكد على افتخارها بتنوعها الوطني، وأن تؤكد دوماً على اعتباره عاملَ بناء وازدهار للمستقبل.
وأعتبر معاليه أن من الثغرات التي يجب سدها عدم إتاحة الفرصة للإعلام المزايد من أجل مصالحه الحزبية أو الفكرية أو العرقية أو المادية على حساب تلك القيم الوطنية الحاضنة والحارسة للجميع، حيث ضحَّى أبناءُ الأقليات الدينية والعرقية وفاء لأوطانهم التي فتحت لهم ولآبائهم أبوابها، ثم يأتي التطرفُ في أقصى يمينه ليُثير النعرات على حساب تلك التضحيات، وعلى حساب تلك الوحدة بسِلْمِها الاجتماعي الذي يُمَثِّل المساس به مخاطرةً بحماية أهم ركائز المصلحة الوطنية العليا.
ودعا معاليه برامج الاندماج الوطني لمعالجة أي عزلة ذات جوانب سلبية سواء أكانت تعليمية أو دينية أو عرقية أو غيرها ولاسيما ما كان منها متبنياً لرفع شعارات تدعو للكراهية والعنف أو تطلب سن القوانين ذات التمييز والإقصاء، أو التساهل في ممارسات التمييز الوظيفي أو فرض ثقافة الأكثرية على الأقلية بهدف صهرها بما يحمله ذلك كله من إنذارات مبكرة على مستقبل انسجام وقوة الوحدة الوطنية، وهذا لا يعني التدخل في الخصوصيات والحريات المشروعة لكن من المهم أن ندرك بأن الحرية تقف عند حدود أحكام الدستور والنظام والمصلحة العليا للدولة الوطنية في سِلْمها ووئامها.
وأكد أنه من المُهم نشر الوعي برفض استدعاء الأحداث التاريخية ومحاكمتها مجدداً فالتاريخ السابق سواء أكان سياسياً أو دينياً أو عرقياً يتحمله بكافة آثاره أصحابُه، وليس من العدل ولا المنطق أن ألوم به الآخرين لمجرد أنه امتداد ديني أو عرقي أو جغرافي أو سياسي لمن سبق، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى عمن مضى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون".
وقال معالي أمين عام رابطة العالم الإسلامي إن التاريخ الإسلامي تحدث بالمنطق الصحيح عندما وصف ثلة من مؤرخيه ما يُسَمَّى بالحملات الصليبية على الشرق بحملات الإفرنج، بل إن اسم الإفرنج تولد بعد تلك الحروب، وهي نسبةٌ عرقيةٌ لا دينية، حيث امتنعت تلك الثلة التاريخية عن نسبتها للدين المسيحي لكونها لا تُمثل أصل القيم الدينية لأهل الكتاب من جهة، ولأنها من جانب آخر أول ما بدأت بقرى أرثوذكسية أبادتها بالكامل، ومن جهة ثالثة فإن المسيحيين العرب كانوا جنباً إلى جنب مع المسلمين العرب في مواجهة تلك الحملات التي نقطع يقيناً بأن الخالق سبحانه لم يرض بما حصل فيها من مجازرَ ومآس أخرى مع أنها رفعت زوراً راية الرب لتبرير توسعها وهيمنتها السياسية والدينية في إطارها المذهبي.
وأشاد معاليه بالموقف التاريخي والشجاع للبابا *يوحنا* بولس الثاني عندما اعتذر علناً عن أخطاء الكنيسة الكاثوليكية في الماضي، مضيفاً أن السؤال اليوم هو هل نعادي الكنيسة لتلك الأخطاء، والجواب في سياقه العادل والمنصف مختصر في قول الخالق سبحانه في الآية السابقة، وهذا يشمل الجميع في تاريخ الأديان كافة حيث مارس بعض أتباعها عبر امتداد زمني طويل أخطاء فادحة لحمل الناس على اعتناق عقيدتهم مع السماح بتمرير المصالح السياسية من خلال مظلتهم الدينية.
ثم استعرض الشيخ د. محمد العيسى أهم معالم خارطة طريق المواطنة المشتركة في دول التنوع من تسعة محاور.