أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور أسامة خياط المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن واجتناب نواهيه ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى .
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام " إنَّ خَيْرَ مَا أُوْتِيَ المرْءُ مِنْ خِصَالٍ حِسٌّ مُرْهَفٌ، وَشُعُورٌ يَقِظٌ، وَقَلْبٌ نَقِيٌّ، وَعَقْلٌ فَطِنٌ، يَبْعَثُ عَلَى تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ اللهُ، والوقوفِ عندَ حُدودِهِ، واستِشْعَارِ حُرْمَةِ ما حرَّمَهُ، والنُّفْرةِ مِنْ انتهاكِها، بحُسْنِ الامتثالِ لأمرِهِ ونَهْيِهِ، وكمالِ الانقيادِ لشَرْعِهِ، ورَجَاءِ جميلِ العُقْبى في الإخلاصِ له، والاتِّباعِ لخاتَمِ أنبيائِـهِ ورُسُلِهِ، عليه أفضل الصلاة والسلام، بالحظوةِ برضوانِهِ ومغفرتِهِ، ونُزولِ دارِ كرامتِهِ، مع الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهِمْ من النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، وحَسُنَ أولئِكَ رَفِيقًا.
وأضاف " إنَّ اللهَ تعالى يختصُّ -بحكمته ورحمته- ما شاءَ مِنَ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ، بما شاءَ مِنَ العِباداتِ والقُرُباتِ، التي يَزْدَلِفُ العِبَادُ القَانِتُونَ المخْبِتُونَ بها إليه، مُبْتَغِينَ بها الوَسِيلةَ في سَيْرهم إلى ربِّهِمْ، بحُسْنِ القُدوم عَلَيْه، ويُمنِ الوُفود إليه ولَقَدْ كانَ مِمَّا كتبه عزَّ اسمُه وافترضه على لِسَانِ خَلِيلِهِ إبراهيمَ ووَلَدِهِ إسماعيلَ-عليهما السَّلامُ- تحريمُ أشْهُرٍ من السَّنَةِ وتعظيمُها بتحريمِ القِتالِ فيها، وتواتَرَ ذلك التحريمُ حتَّى نَقَلَتْهُ العَرَبُ بالتَّواتر القوليِّ والعمليِّ وتلك هي: الأشهر الأربعةُ التي أشار إليها سبحانه بقوله // إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين // , وبيَّنها رسولُ الهُدَى صلى الله عليه وسلم بقولِهِ في خُطْبَةِ حَجَّةِ الوَدَاعِ: «إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، ومُحَرَّمٌ. وَرَجَبُ مُضَرَ، الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» .
وأردف فضيلته قائلا " إنَّما كَانَتْ الأشْهُرُ الحُرُمُ على هذه الصِّفَة –ثَلاثةٌ سَرْدٌ وواحِدٌ فَرْدٌ- كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «لِأَجْلِ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَحُرِّمَ قبل شَهْرِ الحَجِّ شَهْرٌ، وهو ذو القعدة؛ لأنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ القِتَالِ، وحُرِّمَ شَهْرُ ذي الحِجَّةِ؛ لأنهم يُوقِعُونَ فيهِ الحَجَّ، ويَشْتَغِلُونَ فيهِ بِأَدَاءِ المَنَاسِكِ، وحُرِّمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ وَهُوَ المُحَرَّمُ، لِيَرجعوا فيه إلى نائي بِلادِهِمْ آمِنِينَ، وحُرِّم رَجَبُ في وَسَطِ الحَوْلِ؛ لأجلِ زِيارَةِ البَيْتِ والاعتمارِ بهِ لمن يَقدَمُ إليهِ مِنْ أقصى جزيرةِ العَرَبِ، فيزورُهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ آمِنًا» وأمَّا اسْتِدَارَةُ الزَّمَانِ؛ فهي: عَوْدَةُ حِسَابِ الشُّهورِ إلى ما كان عليه مِنْ أَوَّلِ نِظَامِ الخَلْقِ، الذي كتبه اللهُ وقدَّرَهُ، فوقع حجُّهُ في تلك السَّنَةِ في ذِي الحِجَّةِ الذي هو شَهْرُهُ الأَصْلِيُّ؛ ذلك أنهم-كما قال أهلُ العلمِ بالحديثِ كالإمامِ الخَطَّابِيِّ والحافظِ ابن حَجَرٍ وغيرهما: «كانوا على أنحاء، منهم من يُسَمِّي المحرَّمَ صفرًا؛ فيُحِلُّ فيه القتالَ، ويُحرِّم القتال في صفر ويسمِّيه المحرَّم، ومنهم من كان يجعل سنةً هكذا، وسنةً هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا، وسنتين هكذا، ومنهم من يُؤخِّرُ صفر إلى ربيع الأوَّل، وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوالٌ ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحِجَّة، ثم يعود العَدَدُ على الأصل، فكانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتَّحليل والتَّحريم، والتَّقديم والتَّأخير؛ لأسبابٍ تعرِضُ لهم، منها استعجالُ الحرب، فيستحِلُّونَ الشَّهرَ الحرامَ، ثمَّ يُحرِّمون بدَلَهُ شهرًا غيرَه، فتتحوَّلُ في ذلك شهورُ السَّنةِ وتتبدَّلُ» وذلك هو النَّسِيءُ الذي ذمَّه الله تعالى، وبيَّن أنَّه زيادةٌ في الكفر؛ لأنه تشريعُ ما لم يأذنْ به اللهُ، مضافٌ إلى أصل كفرهم بالله بالشرك فتشريع الحلال والحرام والعبادة: هو حقٌّ للهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ شَرَّع مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ شَرعًا؛ فَقَدْ نازعَ اللهَ عزَّ وجلَّ في حقِّه، وذلك شركٌ في ربوبيَّته فيُضِلُّونَ بِهِ سائرَ مَنْ يتَّبِعُهُم منَ الكَافِرينَ الذين يتَّبِعُونَهُمْ فيهِ، ويتوهَّمُونَ أنَّهُمْ لم يخرجوا به عنْ مِلَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ وَاطَأوا فيهِ عِدَّةَ مَا حرَّمَهُ اللهُ مِنَ الشُّهُورِ في مِلَّتِه، وإنْ أَحَلُّوا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَهُوَ المقصُودُ بالذَّاتِ مِنْ شَرْعِه لا مُجرَّدُ العَدَدِ» وهذا كلُّهُ مِنْ ظُلْمِ النَّفْسِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ الذي نَهَى ربُّنا عنْهُ .
وأكد الشيخ الخياط أن ظُلْمُ النَّفْسِ يَشْمَلُ كُلَّ محظورٍ يُوبِق المرءُ فيه نفسَهُ، ويَدخُلُ فيه هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الحَرَامِ دُخُولاً أوليًّا مُحقَّقًا وهذا الظُّلمُ للنَّفسِ كما يكون بالشِّرك بالله تعالى، وهو أعظمُ ظلمٍ لها، فإنه يكون -أيضًا- بالتَّبديل والتَّغييرِ في شرعِ الله، والتَّحليل والتَّحريم بمُجرَّد الهوى، والآراء الشخصيَّة، والاجتهادات التي لا يُسنِدُها دليلٌ صحيحٌ من كتاب الله أو سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ويكون ظلمُ النَّفسِ-أيضًا- باقترافِ الآثامِ، واجتراحِ السَّيِّئاتِ في مختلف دُرُوبها، فالذَّنْبُ سوءٌ وشؤمٌ، وظُلمٌ للنفس في كل زمان؛ لأنَّه اجتراءٌ على العظيم المنتقم الجبَّار، المحسنِ إلى عبادِه بالنِّعَمِ الخاصَّةِ والعامَّة، المتحبِّبِ إليهم بالآلاء وهو الغنيُّ عنهم، لكنَّه في الشهر الحرام أشدُّ سوءًا، وأعظمُ جُرمًا، وأفدحُ ظُلمًا؛ لأنَّه جامعٌ بين الاجتراءِ والاستخفاف، وبين امتهانِ وانتهاك حُرْمَةِ ما حرَّمه الله، وعظَّمَهُ واصطفاه فكما أنَّ المعاصي تُغَلَّظُ في البلدِ الحرام فكذلك الشَّهرُ الحرام تُغلَّظُ فيه الآثامُ؛ ولهذا غُلِّظَتْ فيه الدِّيَةُ عند كثير من العلماء.
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أنه حريٌّ بمن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، أن يحجُزَ نفسه عن الولوغ في الذنوب، وينأى بها عن مزالق الخطايا، ويكفَّها عن التلوُّث بأرجاس الإثم، وأنْ يترفَّعَ عن دواعي الهوى والنَّزَواتِ، والشَّطَحاتِ الموبقاتِ المُهلِكاتِ، وتسويل الشيطان، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، وخَطَرات الشيطان وخَطَواته، وأنْ يذكرَ على الدَّوامِ أنَّ الحياةَ أشواطٌ ومنازل، تفنى فيها الأعمار، وتنتهي الآجال، وتنقطع الأعمال، ولا يدري المرءُ متى يكون الفراقُ لها، وكم من الأشواط يقطع منها، وإلى أيِّ مرحلةٍ يقف به المسير فالسعيد من سَمَت نفسُه إلى طلب أرفع المراتب، وإلى ارتقاء أعلى الدرجات من رضوان الله ومحبته وغفرانه.
ودعا فضيلته الى استدراك ما فات، واغتنام ما بقي من الأزمنة الشريفة، والأوقات المباركة، والتزام المسلك الرَّاشد، والنَّهج السَّديد، في هذا الشَّهر الحرام وفي كلِّ شهور العام، بالإقبال على موائد الطاعة، ورياض القُرُبات، والاستمساك بما صحَّ وثبت عن سيد الأنام عليه الصلاة والسلام والإعراض عنْ كُلِّ مُبْتَدَعٍ لا أصلَ له في كتابِ اللهِ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .