هذه محاولة لرصد البدايات الأولى لطباعة المصحف الشريف بالآلة الطابعة مع ذكر بعض جهود المسلمين لطباعته في وقتنا الحاضر.
ومن المعروف أن القرآن كُتب ودُوِّن منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم في العُسب واللخاف والعظام والحجارة والجلود، وأكرم الله الصديق رضى الله عنه بعد مشورة الصحابة بجمعه وتدوينه في مصحف واحد وأتم الله النعمة على عثمان رضى الله عنه بتوحيد رسمه وجمع المسلمين عليه وتدوين المصاحف وإرسالها للأمصار مع الحفظة القارئين. وما يزال المسلمون يكتبون القرآن ويخطونه بأيديهم بدرجة عالية من الإتقان والتجويد دون أن يسقطوا منه حرفاً أو حركة، كيف لا وقد تكفل الله بحفظه في قوله تعالى:"إنا نحن نزلنا الذذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: ٩).
البدايات الأولى لطباعة المصحف:
كانت البدايات الأولى لطباعة المصحف بالآلة الطابعة في أوربا بغرض الترويج للمطابع وتوفير نسخ من المصحف لرجال الدين النصارى حتي يكونوا على علم بحجج المسلمين وكتابهم.
ثم انتقلت المطابع في مطلع القرن العشرين إلى العالم الإسلامي في تركيا ومصر لتبدأ طباعة المصحف، حتي انتهى الأمر إلى قيام المطابع باسم القرآن الكريم في بلاد المسلمين وطبعت ملايين النسخ منه ليصبح الحصول على نسخة منه ميسوراً لدى الكثيرين من المسلمين وغير المسلمين.
الطبعة الأوربية الأولى:
ظهرت أول نسخة مطبوعة من القرآن الكريم سنة 1537م، وظهرت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ثلاث طبعات من القرآن الكريم.
1- طبعة البندقية:
أو طبعة روما، والمعلومات مضطربة حول هذه الطبعة من حيث تاريخ ومكان الطباعة والمصير الذي آلت إليه إذ يقول أولفانتو إنها طبعت في البندقية وذكرت دائرة المعارف البريطانية أنها طبعت في روما سنة 1530م.
غير أن أنجيلا نيوفو اكشتفت نسخة منها وقامت بإجراء دراسة دقيقة حولها نشرت في 1987م، وأكدت أنها طبعة البندقية. وقد نشرت الدراسة في دوري "La Bible of ilea" واهتم الباحث التونسي عبد الجليل التميمي بهذه الدراسة ونقلت للغة العربية. وقد اختفت هذه الطبعة لأكثر من 450 سنة والنسخة موجودة في مكتبة الدير الفرنسكاني القديس ميخائل ـ بالجزيرة البندقية ـ وتصف الباحثة أنجيلا النسخة بأنها من الحجم الكبير في 232 ورقة والمساحة المطبوعة 205 × 130 ملم والأحرف عربية مائلة، 20 سطراً.
هذه النسخة التي وصفتها أنجيلا نيوفو هي النسخة الوحيدة المعروفة في العالم حتي اليوم وربما تحتاج لمزيد من الدراسة.
2- طبعة هامبورغ 1694م
الغرض من هذه الطبعة تلبية حاجة المستشرقين إلى نسخة من القرآن الكريم. وقد قام بنشر هذه الطبعة المستشرق الألماني هنكلمان، ويقول هنكلمان: "إنه لا ينوي بهذا العمل نشر الإسلام في وسط البروتستانت بل إن هدفه الوحيد هو معرفة العربية والإسلام".
وهنكلمان مستشرق ألماني عاش في الفترة من (1652م – 1995م) أي أنه توفي بعد عام واحد من ظهور الطبعة. واستغرق نص القرآن 560 صفحة في كل صفحة من 17 -19 سطر. وبهذه الطبعة أخطاء كثيرة نذكر نماذج منها:
قوله تعالى: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" (البقرة: 4) كتبت كلمة قبلك ( قيلك).
وقوله تعالى: "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق" (البقرة: 19) كتب كلمة ظلمات ( طلمات).
وكذلك في قوله تعالى: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً" (البقرة: 22) كتب كلمة بناءً (بباء).
3- طبعة بتافيا 1698م:
قام بهذا العمل الراهب الإيطالي لورفيكو مراشي Ludorico Marracei وهي من أعمال مدرسة الرهبان في بتافيا وتشمل النص القرآني مع ترجمة لاتينية. وتقسم السورة إلى مجموعة آيات وفقًا لطولها أو قصرها ويترجم النص في الجهة المقابلة في نفس الصفحة ثم التعليقات والشروح في شكل عمودين تختلط فيهما في بعض الأحيان النصوص اللاتينية مع الكلمات أو الجمل من الآيات بالعربية.
4- الطبعة الإيرانية:
طبع المصحف في إيران طبعتين حجريتين الأولى في طهران سنة 1828م والثانية في تبريز سنة 1933م.
1- طبعة فلوجل سنة 1834م GUSTAV FLUGEL
وهو مستشرف ألماني يهودي وقد نشرت هذه الطبعة سنة 1834م، وهي الطبعة المعتمدة عند المستشرقين على مدى قرن من الزمان حتى ظهرت الطبعة القاهرية سنة 1924م والتي أعيدت طباعتها عدة مرات.
وكل هذه الطبعات لم تتقيد بالرسم العثماني إلا في القليل النادر في بعض الكلمات.
طباعة المصحف في البلاد العربية:
يبدو أن العرب المسلمين قد رفضوا طباعة المصحف في المطابع حتي عصر متأخر بدليل ما حدث للمدعو إبراهيم الهنغاري سنة 1727م، الذي طلب تأسيس مطبعة، وقد أصدر العلماء فتوى صريحة ترفض بشدة طباعة القرآن باعتبار تعارض ذلك مع الإسلام. وقد حصل على الموافقة أخيرًا بشرط ألا يطبع فيها إلا القرآن الكريم وهكذا أسست أول مطبعة في مصر سنة 1825م.
مصحف الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي سنة 1890م:
كما أسلفنا فإن كل المصاحف التي طبعت من قبل لم تتقيد بالرسم العثماني الذي كتبت عليه المصاحف في عهد سيدنا عثمان بن عفان. فكان أول مصحف يتقيد بالرسم العثماني هو مصحف الشيخ رضوان بن محمد، ويبين عدد أي كل سورة في أولها حسب مذاهب علماء العدد المشهورين. ووضَّح مواطن الوقوف وقسَّم الوقف إلى ستة أقسام، كافٍ وحسن وجائز وصالح ومفهوم وتام، مشيراً إلى الكافي بالكاف والحسن بالحاء والجائز بالجيم والصالح بالصاد والمفهوم بالميم والتام بالتاء. وقد طبع هذا المصحف في المطبعة البهية سنة 1308هـ - 1890م وكان هو المتداول بين أهل العلم والقُراء المعول عليه عندهم لما اشتمل عليه من المزايا السابقة بيد أنه طبع في ورق ردئ في مطبعة حجرية.
مصحف الملك فؤاد الأول:
كان مصحف الشيخ رضوان المخللاتي قد طبع في مطبعة حجرية ولم يكن ورقه جيداً مما حدا بالملك فؤاد الأول أن يأمر بطبع هذا المصحف علي نفقته الخاصة، وكونت لجنة برئاسة المغفور له الشيخ محمد علي خلف الحسيني الحداد شيخ المقارئ المصرية للاضطلاع بهذه المهمة الخطيرة.
قامت اللجنة بعملها على الوجه الأكمل، فكتبوا القرآن على قواعد الرسم العثماني وضبطوه ضبطاً تاماً على ما ذهب إليه المحققون من العلماء، فتمت مراجعته علي أمهات كتب القراءات والرسم والضبط والتفسير وعلوم القرآن.
طباعة المصحف في السودان برواية الدوري عن أبي عمرو بن العلاء:
هذه الرواية هي إحدى الروايات السبع المعروفة وتنتشر في السودان خاصة في خلاوي القرآن. وقد جرت عدة محاولات لطبع المصحف بهذه الرواية حتى يتوفر للطلاب والقراء.
المحاولة الأولى قام بها الشاعر محمد سعيد العباسي، والمحاولة الثانية قام بها السيد عبد الرحمن المهدي، والمحاولة الثالثة قام بها الشيخ مجذوب مدثر الحجاز عند زيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر للسودان، فطلب منه الشيخ مجذوب أن يتولى طباعة المصحف برواية الدوري. وأسفرت هذه المحاولة عن تسجيل قراءة الدوري في المصحف المرتل سنة 1962م. بذلت اللجنة برئاسة فؤاد العروس ويوسف كامل البهتيمي جهدًا عظيماً حتى أتمت تسجيل المصحف برواية الدوري.
وكانت آخر المحاولات التي أسفرت عن طبع المصحف برواية الدوري من نصيب الشيخ محمد عبد الكريم الأزهري وتشرف بإنجاز هذا العمل الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، بعد أن تمكنت لجنة من السادة الشيخ يوسف إبراهيم النور ومحمد حسن يوسف والشيخ عبد العظيم الخياط وأمين محمد إبراهيم من إعداده، وقدمت النسخة المعدة من المصحف هدية للسيد الرئيس النميري الذي أمر بطباعة المصحف في المطبعة الحكومية بالخرطوم وتم ذلك بحمد الله وتوفيقه.
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف:
وُضع حجر الأساس لهذا المجمع بيد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز سنة 1403هـ الذي افتتحه قائلا: "بسم الله الرحمن الرحيم وعلي بركة الله العلي القدير، إننا نرجو أن يكون هذا المشروع خيرًا وبركة لخدمة القرآن أولاً والإسلام والمسلمين ثانيًا، راجيا من الله العلي القدير العون والتوفيق في أمورنا الدينية والدنيوية وأن يوفق هذا المشروع الكبير لخدمة ما أنشئ من أجله وهو القرآن الكريم، لينتفع به المسلمون وليتدبروا معانيه".
ويقع المشروع في الشمال الغربي من المدينة المنورة على طريق تبوك في مساحة 250 ألف متر2. ويشكل وحدة عمرانية متكاملة في مرافقها المختلفة يضم مسجدًا ومبنى للإدارة ومستودعات ومجموعة من الوحدات السكنية ومطاعم وملاعب رياضية ومستوصفًا.
وفي السادس من شهر صفر سنة 1405هـ أزاح خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الستار إيذاناً بتشغيل المجمع بعد أن اكتمل بناؤه وتجهيزاته الفنية والبشرية، وسطر الملك فهد في سجل المجمع الكلمات التالية: "لقد كنت قبل سنتين في هذا المكان لوضع حجر الأساس لهذا المشروع العظيم، وفي هذه المدينة العظيمة التي فرح أهلها بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خير عون له في شدائد الأمور وانطلقت منها دعوة الخير والبركة للعالم أجمع". ويعتبر هذا المجمع أكبر مطبعة في العالم لطباعة المصحف الشريف. تبلغ الطاقة الإنتاجية 18 مليون نسخة سنويا موزعة بين مصاحف كاملة وأجزاء وترجمات وتسجيلات وكتب.
وقد بلغت النسخ التي وزعها المجمع من المصحف الشريف خلال عام 2021م 20 مليون نسخة.
من إنجازات مجمع الملك فهد:
1- طبع المصحف الشريف في المجمع برواية حفص عن عاصم، وكتب المصحف على قواعد الرسم العثماني، وأخذوا بعلامات الخليل بن أحمد وأتباعه من المشارقة وطبع المصحف بأحجام مختلفة.
2- طبع المصحف برواية ورش عن نافع المدني وهي رواية معظم دول المغرب العربي إضافة إلى السنغال وتشاد ونيجريا.
3- طبع المصحف برواية الدوري عن أبي عمرو بن العلاء البصري علي قواعد الرسم العثماني.
4- طبع مصحف برواية حفص عن عاصم على حسب قواعد الرسم والضبط المتعارف عليها في باكستان وما جاورها.
ولا شك أن مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عمل عظيم جاء في أوانه ووقته المناسب حيث أقبلت الكثير من الأمم والشعوب على الإسلام للتعرف عليه. وخير وسيلة لدعوة الآخرين للإسلام هي القرآن الكريم، فجزى الله الملك فهد خيراً على هذا العمل العظيم وجعله في ميزان حسناته.
طباعة المصحف في دار مصحف إفريقيا بالخرطوم
بدأ هذا المشروع عندما تبرعت إحدى المحسنات من المملكة العربية السعودية بطبع عشرة آلاف نسخة من المصحف الشريف في مطبعة جامعة إفريقيا العالمية، وكتب علي الغلاف مصحف إفريقيا. ورعت جامعة إفريقيا هذا المشروع حتى أصبح دار مصحف إفريقيا والتي تم افتتاحها بحضور رئيس الجمهورية السابق عمر حسن أحمد البشير في 25 ربيع الثاني 1422هـ الموافق16/7/2001م. وقد وجد المشروع دعماً كبيراً من حكومة السودان من إقطاع الأرض والإعفاء من الرسوم الجمركية، كما أسهمت دول الخليج العربي إسهامات كبيرة في تمويل شراء الماكينات، كما تواصل دعم المملكة العربية السعودية الرسمي والشخصي للمشروع.
وقد كانت جامعة إفريقيا ومديرها البروفيسور عمر السماني الشيخ رئيس مجلس إدارة الدار ومنظمة الدعوة الإسلامية بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب ودكتور الأمين محمد عثمان وراء هذا العمل العظيم.
من إنجازات دار مصحف إفريقيا:
1- طباعة المصحف برواية الدوري، وبُني هذا العمل علي الجهد السابق الذي تُوِّج بطباعة رواية الدوري بتوجيه من السيد الرئيس جعفر نميري سنة 1978م. وقد أجرت دار مصحف إفريقيا تعديلات على مصحف الدار الشامية بخط الخطاط عثمان طه إذ تكرم المهندس مصطفي صبري البيلاني صاحب الدار الشامية بالأذن لدار مصحف إفريقيا بطباعته ونشره ليوافق رواية الدوري عن أبي عمرو.
2- طباعة المصحف برواية حفص عن عاصم، وقد اعتمدت الدار على مصحف الدار الشامية كذلك.
3- طباعة المصحف برواية ورش.
ومنذ إنشاء الدار سنة 1422هـ/2001م فقد تم طبع 18 مليون نسخة من المصحف وربع يسن والعشر الأخير من القرآن الكريم وُزعت على أكثر من خمسين (50) دولة إفريقية وثمانية دول (8) في الاتحاد الأوروبي.
مراجع البحث:
1- الأعلام الزركلي.
2- تاريخ المصحف الشريف، الشيخ عبد الفتاح القاضي.
3- تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته وعناية المملكة العربية السعودية بطبعه د. محمد سالم العوفي، الأمين العام لمجمع الملك فهد.
4- تعريف بمصحف الدوري، د. الدرديري علي خلف الله.
5- دار مصحف إفريقيا، من الإعلان إلى الافتتاح.
6- كتابة المصحف الشريف برواية أبي عمرو الدوري، د. يوسف الخليفة أبوبكر.
7- شبكة المعلومات الدولية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
8- شبكة المعلومات الدولية، لدار مصحف إفريقيا – الخرطوم.