بعد انتشار الإسلام في إفريقيا، شرع الأفارقة في إنشاء بيوت الله في صحراء إفريقيا، فأنشؤوا المساجد من الطين والقش، والتي ما زال بعضها قائماً إلى اليوم، يلجؤون إليها للصلاة والعبادة وللتعلم أيضاً.
هذه المساجد تجسد بشكل واضح نمط العمارة السودانية الساحلية الأصيلة الشائعة بين الشعوب الإفريقية في منطقة الساحل وفي غرب إفريقيا، وجنوب الصحراء، والتي تتميز باستخدام الطوب الطيني والجص، مع عوارض خشبية كبيرة من خشب الدردار تبرز من حائط المباني الكبيرة. تعمل هذه العوارض أيضًا كسقالات للترميم وتجديد البناء، والتي تتم على فترات منتظمة، بمشاركة المجتمع المحلي.
إلا أن هذا النمط ليس واحدا، فهو يختلف من منطقة إلى أخرى، ويمكن تقسيمه بحسب تصنيف موقع ويكيبيديا إلى أربعة أنماط فرعية، وهي: نمط مالي؛ ونمط القلعة؛ ونمط حوض فولتا؛ ونمط توبالي. هذه الأنماط لا يقتصر أي منها على حدود دولة حديثة معينة، ولكنها مرتبطة بالأصول القبلية للسكان، كما أنها تتلاقح فيما بينها وتتبادل التأثير والتأثر، لتطبع المباني بميزات مشتركة.
وإذا كان من حظ مساجد الشرق وآسيا أن لقيت عناية الدارسين، فخصوها ببحوث ومقالات ودراسات، تبحث في جوانبها وهندستها وأدوارها وطرق بنائها، فإن مساجد غرب إفريقيا لم تحظ بالعناية نفسها من الباحثين، ففي البحث عن المآذن الإسلامية مثلا، نجد ذكرا لكل المآذن المغربية والمصرية والشامية والخليجية والهندية والفارسية والتركية وغيرها، وتصنيفها بحسب شكلها وألوانها وتصميمها، ولا نجد ذكرا لمآذن المساجد الإفريقية، على الرغم من تميزها بشكلها الهرمي النادر الذي لا يتكرر في منطقة أخرى من العالم. فمن المؤكَّد أنَّ المعماري الإفريقي المسلم بفطرته جعل من المئذنة عنصرًا معماريًّا يجسد الهوية الثقافية الإفريقية التي تزيد الإسلام ثراء وغنى.
إن المآذن الهرمية نمط معماري سوداني انتشر في عديد من مساجد منطقة الساحل وامتد الانتشار إلى شمال إفريقيا، ثم واصل انتشاره نحو غرب إفريقيا. فالشكل الهرمي للمآذن نجده بارزا في الأنماط المعمارية الثلاثة التالية:
نمط القلعة في شمال إفريقيا والنيجر
ينتشر في رقعة واسعة من إفريقيا، تمتد من واحة سيوة إلى المغرب غربا، وجنوبا شمال نيجيريا والنيجر، والهوسا فولاني، والطوارق، وأغاديس، وشعب سونغهاي في شمال شرق مالي. يهتم بالجانب العسكري لبناء جدران مجمعات حامية عالية حول فناء مركزي، ومن أمثلته:
مسجد أغاديس بالنيجر
يعد من أبرز مساجد النيجر، بني من الطين عام 1515، إثر خضوع المدينة لحكم سونغاي، وحسب بعض الروايات، فإن الطوارق ذهبوا إلى تمبكتو لتعلم تقنيات البناء، وعندما عادوا بنوا مسجد أغاديس وجعلوا مئذنته على شكل برج مراقبة علوه ثلاثون مترا، للاستعانة به في رصد تحركات الخصوم والمهاجمين.
لمواجهة ندرة مواد البناء، ابتكر بناؤو المسجد مادة تسمى «بانكو» بمزج الطين الناعم من الأنهار القريبة بقش الأرز، ومسحوق شجر الباوباب، وزبدة الشيا والماء. ولضمان شروط الصيانة البعدية للمسجد وأبراجه، أدمج البناة السقالات في البناء، ففي كل برج عوارض خشبية تخرج من جدرانه، تسهل أشغال الترميم والصيانة.
وقد أضحى المسجد ومئذنته علامة بارزة ومعلماً سياحياً ومعمارياً في هذه المدينة الصحراوية.
نمط مالي
مالي معروفة بأسلوبها المعماري الذي ينتشر في جنوبها ووسطها، ويتجسد في الجامع الكبير في جينيه ومسجد كاني كومبولي. والمآذن الهرمية تنتصب في مساجد قديمة أنشئت في القرن الرابع عشر الميلادي على عهد السلطان منسا موسى، الذي بعد إتمامه مناسك الحج، عاد إلى بلاده مرورا بمصر، وفيها التقى المهندس الأندلسي أبو إسحاق الساحلي، المعروف بابن الطويجن، فاستقدمه إلى مالي مقابل أجرة كبيرة قوامها قنطاران من الذهب، وبها أنشأ عدة مبان شهيرة، منها قصر السلطان وبعض المساجد، بحسب ما ذكره ليون الإفريقي في كتابه وصف إفريقيا، ومن بين إنشاءاته مسجد «دجين كاريير» و«سنكوري»
مسجد جين كاريير
مسجد جين كاريير ويعني المسجد الكبير بلغة السونغاي، يقع في أقصى غرب تمبكتو، ولعله هو الجامع الكبير الذي ذكر السعدي في كتابه تاريخ السودان أن مؤسسه هو السلطان الحاج موسى صاحب مالي، وأن صومعته على خمسة صفوف (طبعة باريس، ص56). وأضاف بأنه تم تجديد بنائه عام 976ه، وأشرف القاضي العاقب على العملية، فزاد في توسعته بتسوية المقابر وضمها إليه (ص109). وقد سجل المسجد ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي سنة 1988.
يحتوي فناء واسعاً غير مسقوف، ومساحة مسقوفة تقوم على خمسة وعشرين صفا من السواري، وتعتليه مئذنتان، الأولى هرمية الشكل، والثانية أصغر ذات شكل مخروطي.
المئذنة الأولى، وهي الأقدم وسبب شهرة المسجد، تشبه هرما غير تام، تستقر على قاعدة طول ضلعها حوالي 8.8م، وتناهز مساحتها 75 متراً مربعاً، أما في القمة، فتضيق الأبعاد، ليصبح كل ضلع بطول يتراوح ما بين 4 و5 أمتار فقط، تتوج بقبة كروية لطيفة.
جامع سنكوري
أحد أقدم معالم المدينة، وكان أيضاً من أبرز مؤسسات التعليم في المدينة. أقيم في حي سنكوري في تمبكتو في مالي، تعاقب على إمامته «أهل آقيت»، ومن هذه الأسرة العلامة أحمد بابا التمبكتى.
ذكر السعدي في تاريخه أن «مسجد سنكوري بنته امرأة ذات مال كثير، ولكن لم نجد لبنائها تاريخاً» (ص62). والراجح أن بناءه قد تم أول مرة أثناء تأسيس مدينة تمبكتو. وجدد بناءه أيضا القاضي العاقل عام 985ه (ص111). وفي القرن الثامن الهجري جدده السلطان المالي الحاج مَنْسا موسى (707- 732هـ)، وبنى مئذنته بعد عودته من الحج عام 724هـ- 1324م، وهو الوقت الذي ضم فيه مدينة تمبكتو إلى مملكته. ومن المرجح أن الذي قام ببناء هذا الجامع هو المهندس الشاعر الأندلسي أبو إسحاق إبراهيم الساحيلي للشبه القائم بينه وبين المسجد الكبير.
والمئذنة شكلها هرمي غير مكتمل، خطوطها حادة وبارزة، تتشكل من قاعدة طولها حوالي 7 أمتار ونصف المتر، وعرضها حوالي 6 أمتار و75 سنتمترا، وقمة الهرم طولها وعرضها حوالي مترين، تتوجه قبة في الأعلى.
نمط حوض فولتا
يتجسد هذا النمط في مساجد عدة منتشرة في الكوت ديفوار، وبوركينا فاسو، وغانا. بعض المساجد صغيرة الحجم لا تستوعب سوى مصلين قليلين، لا يتعدى عددهم العشرين أو الثلاثين، وبعضها كبير الحجم قد تستوعب مئات المصلين، كثير من هذه المساجد اندثر، بعضها عفا أثره، وبعضها تم ترميمه أو تجديده.
بنيت كلها على نمط واحد، تتألف من حائط تدعمه أعمدة عدة مخروطية الشكل واسعة عند القاعدة ضيقة في القمة، تتوزع على كامل الجدار، تشبه الأبراج الصغيرة، ومن سقف مسطح، ومئذنة أو مئذنتين عاليتين، هرميتي الشكل، ومن أمثلة هذه المساجد نذكر «لارابانكا» و«ديولا سويا».
مسجد لارابانكا بغانا
هو أحد المساجد الأثرية في غانا، وأحد أقدم مساجد إفريقيا الغربية، يقع في قرية لارابانكا في منطقة «دامونغو» الشمالية من غانا. شُيِّد في القرن السابع عشر الميلادي وفق النمط المعماري السوداني الساحلي، واكتسب أهمية ورمزية كبيرة عند المسلمين في غانا.
حسب الرواية الشعبية المُتناقلة فإنَّ هذا المسجد بُني سنة 1421م، على يد تاجر مسلم اسمه أيوب، وهيئة المسجد الخارجيَّة مُميزة، فهو مبنيٌّ بواسطة الطوب الأبيض والقصب، ولهُ بُرجان طويلان هرميَّان، أحدهما يضم المحراب ويُشكِّلُ واجهة المبنى من الشرق، والآخر يلعب دور المئذنة ويقع في الجانب الشمالي الشرقي. يتكاتف الطرفان مع اثني عشر بناء بصليَّة الشكل مُركبة بواسطة جُذوع خشبيَّة عدَّة.
وخضع المسجد لعملية ترميم شاملة عام 2002م، مع الحفاظ على معالمه الطرازية الإفريقية السودانية، إلا أن المئذنة تم تعديل نصفها الأعلى قليلا، فأضحت أكثر ضخامة وأقل حدة، وأصبح وتر الهرم يرسم خطاً منحنياً.
مسجد بوبو ديولاسو ـ بوركينا فاسو
ذكرت «كاتيا ويرثمان» في بحثها عن مدينة بوبو ديلاسو (منشورات كارثالا، باريس 2013) أن المسجد بني في عهد الملك «سيا» تكريما للمسلمين الذين وقفوا إلى جانبه، بقيادة الإمام صديق سانو، وشاركوا في مقاومة الغزو الأجنبي للمدينة عام 1874، وبعد تحقيق النصر، استجاب الملك سيا لطلب الإمام صديق سانو، وأذن له ببناء المسجد لإقامة شعيرة الصلاة، فكان أول مسجد أقيم في المنطقة، لذلك يعرف بلقب «المسجد القديم»، ويتسع لحوالي 800 مصل، وظل منذ ذلك الوقت الوجهة المفضّلة لمسلمي البلاد طوال شهر رمضان الكريم، متميزا بشكله المغاير تماما لشكل المساجد المستوحاة من المعمار العربي الإسلامي.
بنيت جدران المسجد بقوالب الطوب النيء الكروية الشكل، والجدار الخارجي يتوزع عليه وفق مسافات متساوية عدد من الأعمدة الداعمة التي تحيط بالمبنى، العريضة القاعدة الضيقة الرؤوس، تتجاوز رؤوسها مستوى السقف، تبرز واضحة أعلى البناية، مما يضفي على المسجد تناغما جماليا مع المحيط وقيمة فنية عالية.
والسقف مدعوم بـ42 ركيزة مقسّمة على 9 صفوف. يحتوي السقف على فجوات تسمح بتجدد الهواء، يتم إغلاقها في المواسم الممطرة، لحماية المسجد من تسرب مياه المطر.
للمسجد مئذنتان هرميتا الشكل، ثبتت فيهما أوتاد من أغصان الأشجار تمنح البناية الصلابة، وتغدو بدورها تحلية وزخرفة جميلة، وتوفر للعمال سلما للتسلق وهيكلا لتركيب السقالة خلال عمليات الترميم والصيانة. قمة المئذنة يزينها بيض النعام، الذي وضع عليها لحمايتها وتزيينها. المئذنة الرئيسة العالية تسمح برؤية المسجد من مكان بعيد، تتوفر على خمس غرف، أقيمت فوق المحراب، والمئذنة الصغيرة تتوفر على أربع غرف، هذه الغرف، يتخذها الأئمة للاستراحة، خاصة أن بعضهم يفد إلى المسجد من أماكن بعيدة، ويقضي في المسجد أياما عدة تتجاوز الأسبوع، يتفرغ فيها للعبادة وتعليم الناس وإلقاء المواعظ. وفي عام 1980، وبمناسبة الاحتفاء بمئوية المسجد، شهد توسعة هامة وتأهيلا وصيانة شاملين لكل مرافقه ومكوناته، وألحق به جناح جديد خصص للنساء.
قيمة إضافية للثقافة الإفريقية
ابتكر المسلمون الأفارقة تصميماتهم الخاصة لمساجدهم، فزاوجوا فيها بين الثقافتين الإفريقية الأصيلة والإسلامية الوافدة، فبنوا بموادهم الأولية، وجسدوا المعايير الجمالية والتقاليد المحلية، وراعوا الشروط الإسلامية في إقامة أماكن العبادة. فقامت كل منطقة في إفريقيا بابتكار نمطها الخاص بأماكن عبادتها، فظهرت أشكال عدة للمساجد، ترتبط بالثقافات المحلية وتعكس الأصول الثقافية للبنائين. فمساجد المناطق الصحراوية والواحية تختلف عن مساجد مناطق السهوب ومساجد جنوب الصحراء وغرب إفريقيا شكلاً وحجماً ولوناً، إلا أنها عموما لا تختلف وظيفة ولا تصميما عن المساجد في البلاد الإسلامية قاطبة، فهي تقام للصلاة، وأحيانا للاجتماعات الضرورية لمناقشة قضايا الجماعة الإسلامية، وللتعليم أيضا.