إن التنوع الثقافي كمصطلح حديث يعني أن لكل ثقافة من الثقافات الإنسانية المعتبرة قيمتها ومكانتها وإسهامها في إغناء التراث الإنساني. إنه مبدأ ذو قيمة إيجابية عالية لأنه يدل على غنى العطاء الفكري للعقول البشرية على اختلاف ظروفها وبيئاتها عكس العولمة التي تسعى إلى فرض نموذج ثقافي واحد مهيمن يلغي النماذج الثقافية الأخرى المتنوعة ويهدد باندثار مقوماتها الحضارية.
ومما لا شك فيه أن الثقافة التي تصطبغ بقوالب وأشكال متنوعة عبر الزمان والمكان بحاجة إلى الاحتكاك والتواصل مع الأشكال الثقافية الأخرى في إطار من التنوع الإيجابي، وهذا التنوع يتجلى في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية وكذا في تعددها وتفاعلها. ويتزايد تنوع هذه المجتمعات يوما بعد يوم، مما يستدعي التفاعل المنسجم والرغبة في العيش المشترك بين الأفراد والمجموعات ذات الخصوصيات الثقافية المتعددة والمتنوعة.
وإذا كانت الحقوق الثقافية جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتكافلة فإن من حق كل شخص أن يتمتع بالقدرة على التعبير عن نفسه والإبداع في كل المجالات، كما أن له الحق في تعليم وتدريب جيدين يحترمان هويته الثقافية احتراما كاملا فضلا عن الحق في ممارسة تقاليده وأعرافه الثقافية الخاصة المميزة.
ولذلك فإن كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية لا بد أن يزدهر بالاتصال مع الثقافات الأخرى. ويعتبر إحياء تراث الشعوب بمختلف أشكاله ونقله إلى الأجيال القادمة طريقا لتغذية الإبداع الإنساني بكل تنوعه والتحفيز على تأسيس حوار حقيقي وفعال وهادف بين الثقافات يخدم الأهداف الإنسانية النبيلة ويساهم في إقرار ثقافة العدل والسلام والحوار بين الحضارات والأديان. إن المفهوم الدولي للتنوع الثقافي يؤكد على أهمية اهتمام السياسات الثقافية لبلدان العالم بإتاحة الظروف المواتية لإنتاج ونشر صناعات وخدمات ثقافية متنوعة تكون لها القدرة على إثبات الذات على الصعيدين المحلي والدولي، ولذلك يعهد إلى كل دولة تحديد السياسة الثقافية التي ترجو من ورائها تنفيذ إسهامها الطبيعي في التنوع الثقافي.
إن مما تزخر به الحضارة الإسلامية وجود ضرب من الأدب يعرف بأدب الاختلاف الذي هو خلق إسلامي ومظهر إيجابي من مظاهر الحضارة الإسلامية، إنه يؤكد على قيم الحوار وأدب الخلاف في الإسلام، لما في ذلك من إنصاف للخصم واحترام للرأي الآخر وبيان لأسس التنوع الثقافي الذي حافظت الحضارة الإسلامية عليه عبر القرون، ولم يسبق أن حُفظ حق التنوع الثقافي وكُفلت حرية التدين كما حدث في ظل الحضارة الإسلامية، ومهما تم خرق هذا الحق في بعض الأحيان خلال عصور التراجع الحضاري فإن هذا الحق يعتبر من الثوابت التي لا تتغير .
وقد وردت في القرآن الكريم نصوص متعددة تؤكد التنوع وتدعو إلى قيمه وتؤصلها، من ذلك قوله تعالى (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)(الروم 22) وقوله عز وجل (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (هود 118-119)، وقوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(النحل 125). إن الإسلام ينكر نزعة المركزية المغرضة التي تريد العالم نمطا واحدا والإنسانية قالبا واحدا، منكرة على الآخرين حق التمايز والاختلاف (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)(المائدة 48)، فهو سبحانه قد خلق البشر للتنوع والاختلاف لكن لن يتحقق المراد من هذا التنوع إلا إذا كان هنالك حوار يرسخ قيم التوافق والتعاون والتعايش بين أتباع الحضارات والثقافات المختلفة .
لقد تميزت الحضارة والثقافة الإسلاميتان بتركيزهما على اعتبار: طلب العلم فريضة على كل مسلم، وأن: الحكمة ضالة المؤمن، مما ساهم في إغناء التراث الإنساني في شتى حقول العلوم والفنون والآداب. لقد حرصت الشعوب الإسلامية عبر التاريخ على إظهار رغبتها وتأكيد إرادتها في المشاركة في إغناء الرصيد الثقافي الإنساني على أساس من احترام حقوق الإنسان وصون المقومات المادية والمعنوية للكرامة الإنسانية واعتبار التنوع الثقافي والحق في الاختلاف مقومين أساسيين من حقوق الإنسان كما شرعها الإسلام وحددتها القوانين الدولية.
تعزيز مبدأ التعددية الحضارية في مواجهة المتغيرات والتحديات
إن قيم الإخاء والمحبة والعدل والتسامح هي مبادئ كونية تشترك في الأخذ بها معظم الحضارات الإنسانية التي تسعى إلى الارتقاء بها وترسيخها في الضمائر والسلوك الإنساني باعتبارها موروثا إنسانيا جماعيا ينبني على الحوار الحضاري، البناء الهادف إلى الخروج من دوامة النزاعات والصراعات المستنزفة للقدرات والطاقات، إنه خيار لا يملك عقلاء مختلف الحضارات والقادة الدينيون إلا الدعوة إليه والعمل على تعزيزه وصونه وجعله قاعدة من القواعد الثابتة للقاء الحضاري ووسيلة عملية وبناءة لاستتباب الأمن والسلام وإقرار مبدأ التنوع الثقافي.
إنه يتعزز اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى - شعور قوي بضرورة دفع فرص التحاور والتلاقي بين الأمم والشعوب والثقافات من أجل تحقيق الأهداف الإنسانية الجامعة وتعزيز القيم المشتركة، وإذا كان من الصعب تصور أي تعاون أو تحاور حقيقي بين أتباع الحضارات والثقافات في عالم متغير وبالغ التعقيد دون الإقرار بمبدأ التنوع الثقافي فإنه لا بديل عن تكريس أجواء التربية على الحوار والتواصل والرغبة في تأسيس قواعد العيش المشترك بين بني البشر من أجل تحقيق مستقبل إنساني وحضاري أكثر استقرارا وتضامنا. لقد تنامت المتغيرات الدولية بوتيرة هائلة وتفاقمت مضاعفاتها وانعكاساتها على الأوضاع الدولية بصورة مؤثرة فتصاعدت بذلك المخاطر والتأثيرات السلبية التي تهز استقرار المجتمعات الإنسانية وتهدد الأمن والسلام الدوليين، ولقد أصاب العالم الإسلامي قدر كبير من تلك الأضرار والمخاطر التي أفرزتها المتغيرات الدولية الراهنة، وأمام كل هذا أصبح من المتعين على القادة الدينيين وزعماء العمل الثقافي والحضاري القيام بمبادرات من أجل اللقاء والتفاهم والتواصل ودعم الجهود المبذولة من أجل وضع الأسس الثابتة للتفاعل الحضاري المنشود في سياق تعزيز قواعد مبدأ التنوع الثقافي والتعددية الحضارية في مواجهة نظريات الصراع الحضاري التي لا يمكن اعتبارها بأي وجه من الوجوه قدرا محتوما كما يزعم البعض، وذلك لأن آفات العنف والتطرف والجهل بالحقائق التي تكتنزها كل حضارة على حدة والخوف من الآخر ليست أمورا حتمية بل هي من إفرازات عوامل التربية والثقافة والإعلام التي ينشأ عليها المرء فتطبع سلوكياته وتصرفاته وردود أفعاله.
من هنا فإن عقلاء العالم مجمعون على أنه لا بديل عن التفاعل الحضاري القاضي بتكريس مبادئ التنوع الثقافي والمحافظة على التعددية الثقافية بما يعود على الإنسانية جمعاء بالنفع والفائدة، فالتفاعل عملية تجاذبية لكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن عكس نظريات الصدام الحضاري التي لا تعدو أن تكون منطلقة من نزعات صراعية تدفع الغرب بكل مكوناته وإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفي الآخر.
إن الإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر المركزية الحضارية التي تسعى إلى أن تجعل العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى.
إن الإسلام وهو يدعو إلى إقرار التنوع الثقافي يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الطرق تتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام. وباعتباره دينا عالميا وخاتم الأديان فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمي إلى تسنم (المركزية الدينية) التي تجبر على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى في الكون، قال سبحانه (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) (المائدة: 48)، وقال أيضا (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (هود: 118-119).
حق التنوع الثقافي
اعتزاز بالهوية وانفتاح على الآخر وانطلاقا من ذلك فإن الدعوة إلى إقرار التنوع الثقافي وتعزيز سبل التفاعل الحضاري تقتضي – بشكل بدهي –التمسك بذاتيتنا الثقافية وهويتنا الحضارية والدفاع عنهما، وهو ما يتطلب منا مراجعة الذات والمواقف دون التنكر للهوية الدينية والثقافية لأنه من دون الثبات على القيم والمبادئ لن يتأتى لنا فهم الآخر وحضارته بشكل أمثل. وهذا ما يستوجب احترام خصوصيات ومميزات كل حضارة، فإذا كانت الحضارات والثقافات الإنسانية تتفق على قدر مشترك من التفاعل والتواصل وخدمة الإنسانية فإنها بالمقابل تتمايز في خصائصها وما تبطنه من قيم وتراث تاريخي.
إن اعتزازنا بديننا لا يسمح بالتنازل عن أدنى مقوم من المقومات أو شيء من المسلمات، وهذا أمر يعبر عن اعتزاز بالأصول والثوابت الدينية واستمساك بالأصالة والهوية الثقافية، فليس أمينا ولا موثوقا به ولا راغبا في بناء علاقات حوار وتواصل من يتجاهل الاختلاف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أو ينكره، فكما أننا منهيون عن إكراه الناس أو الأمم الأخرى عن الاقتناع بالإسلام فكذلك لا نقبل من أحد أن يجعلنا نسخة من ثقافته ونموذجه الحضاري.
ولا شك أن استحضار هذه الحدود الفاصلة يعتبر مفيدا في سياق الدعوة إلى تعزيز أسس ومبادئ التنوع الثقافي لأن الاعتزاز بالذات والاحتفاظ بالمقومات والخصوصيات الحضارية هو أدعى للانفتاح على الآخر والتفاعل معه في سبيل تحقيق العيش المشترك المنشود. ولا يخفى على أحد أن ما عرفته السنوات الأخيرة من مبادرات لنسج جسور التعاون والتفاهم والتعارف الحضاري بين القادة الدينيين وكبار علماء ومسؤولي المنظمات والهيئات الإسلامية على أكثر من مستوى يعبر بالتأكيد على هذا الأمر، إذ يعتبر هؤلاء الزعماء الدينيون الأكثر انتصارا وحماية للأصول والمقومات الدينية والحضارية التي يدافعون عنها، وهم في ذات الوقت الأكثر حرصا على الالتقاء بالآخر والانتقال إليه في بلده وعقد لقاءات التعارف والتفاهم والتوافق مع رجالات السياسة والدين والثقافة.
إن هذا التشوف إلى المزاوجة والمراوحة بين أصالة وهوية معتز بهما وبين انفتاح على الآخر ومد ليد التعاون والتفاهم معه يعبر بكل تأكيد على استيعاب أمثل لمقتضيات ومتطلبات الارتقاء بمبدأ تعزيز التنوع الثقافي إلى المستوى المطلوب الكفيل بتوسيع الأرضية المشتركة ودعم فرص التوافق والتلاقي، وهو ما يشكل حتما الإرث المشترك للإنسانية جمعاء تستلهم منه ما يُفعل ويعزز أسباب التفاهم الدولي ويوفر فرص الحفاظ على الأمن والسلام العالميين.
ختاما نرى أن مواجهة التحديات والمتغيرات الحضارية الراهنة في سياق الحديث عن حق التنوع الثقافي تفرض حشد جميع الجهود لترسيخ الثوابت والمسلمات التي نؤمن بها انطلاقا من قناعاتنا العقدية والدينية والإسهام بالمقابل في ترسيخ قيم التعدد والحوار والتعارف الحضاري الذي دعت إليه الآية القرآنية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (الحجرات: 13). وهو مبدأ إنساني حضاري هام له أكبر الدور في ردع النزاعات والصراعات من جهة وتقريب الأفكار والمسافات ونسج أواصر التعارف والتفاهم بين الأمم والشعوب من جهة أخرى. إنه بالتعارف والتواصل والاعتراف المتبادل يمكن تقريب الشقة بين مختلف الثقافات والحضارات وجعلها ينفتح بعضها على بعض في سعي حثيث نحو تلاقح متميز وتفاهم مفيد يسمح بالإقرار بالتعددية والتنوع الثقافي والاعتراف بما لدى الآخر من مقومات الإنتاج الثقافي والتميز الحضاري.