بمبادرة من الأمين العام لرابطة العالم الاسلامي الدكتور محمد عبد الكريم العيسى، عُقد مؤتمر اسلامي جامع في مكة المكرمة صدرت عنه وثيقة من 29 بنداً حددت الموقف الاسلامي من قضايا العصر وتحدياته.
وتستمد الوثيقة أهميتها من:
أولاً: انها صدرت عن كبار علماء الأمة الاسلامية من كل المذاهب ومن كل القارات.
ثانياً: انها صدرت في مكة المكرمة، ومن جوار المسجد الحرام.
ثالثاً: ان تاريخ صدورها كان العشر الأواخر من شهر رمضان.
ان لهذه المؤشرات الثلاثة دلالات معنوية عميقة. غير ان أهمية الوثيقة لا تقف عند حدود الرمزية المعنوية، ولكنها تنطلق منها لإقرار سلسلة من المواقف التي تؤكد على الثوابت الاسلامية من قضايا العصر. وفي مقدمة هذه المواقف – الثوابت التأكيد على مبدأ الإخوة الانسانية، بين مختلف مكوّنات المجتمع الانساني. والتأكيد على احترام الاختلافات بين الناس على انها معطى إلهي. وبالتالي فان هذه الاختلافات، كما قالت الوثيقة، تشكل ثروة للبشرية وليس سبباً للصراع والصدام.
وذهبت الوثيقة الى حد الدعوة الى إقامة شراكة حضارية إيجابية تجعل من التنوع جسراً للحوار والتفاهم والتعاون.
ولم تقف الوثيقة عند حدود الاعتراف بالأديان السماوية، بل انها انطلقت من هذا الاعتراف لتؤكد على أن أصل الأديان واحد، وهو الإيمان بالله الواحد.
لذلك دعت الوثيقة أولاً الى عدم الربط بين الدين والممارسات السياسية الخاطئة. ودعت ثانياً الى الحوار الحضاري باعتباره افضل السبل للتفاهم السوي مع الآخر، والاعتراف بحقوقه المشروعة، وتجاوز معوّقات العيش المشترك. وفي هذا الشأن قالت الوثيقة:
« ان تحقيق معادلة العيش المشترك الآمن بين جميع المكونات الدينية والإثنية والثقافية على اتساع الدائرة الانسانية، يستدعي تعاون القيادات العالمية والمؤسسات الدولية كافة، وعدم التفريق – عند مد يد العون السياسي أو الاقتصادي او الانساني – بين الناس على اساس ديني أو عرقي أو غيره».
انطلاقاً من هذه الثوابت أكدت وثيقة مكة المكرمة على براءة الأديان والفلسفات من مجازفات بعض معتنقيها ومدّعيها، مذكرة بقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم «انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ودعت الوثيقة الى «رفض العبارات والشعارات العنصرية، والتنديد بدعاوى الاستعلاء البغيضة التي تزيّنها أوهام التفضيل المصطنعة، فأكرم الناس أتقاهم لله. كما ان خيارهم أنفعهم للناس».
وبيّنت الوثيقة ان مكارم الاخلاق تقوم على التعاون من أجل خير الانسان، ومن أجل التصدي للخلل الحضاري الذي يعتبر الارهاب –كما جاء في الوثيقة- فرعاً من فروعه، ونتيجة من نتائجه.
وفي هذا الاطار دعت وثيقة مكة المكرمة الى سنّ التشريعات الرادعة لمروّجي الكراهية والمحرّضين على العنف والارهاب والصدام الحضاري. كما دعت الى مكافحة الارهاب والظلم والقهر ورفض استغلال مقدرات الشعوب وانتهاك حقوق الانسان.
وبرأت الوثيقة الأديان والفلسفات من مجازفات معتنقيها ومدّعيها، وقالت انها « لا تعبّر إلا عن اصحابها، فالشرائع المتعددة تدعو في أصولها الى عبادة الخالق وحده، والتقرب اليه بنفع مخلوقاته، والحفاظ على كرامتهم، وتعزيز قيمهم، والحفاظ على علاقاتهم الأسرية، والمجتمعية الإيجابية».
وحذرت وثيقة مكة المكرمة ايضاً من ظاهرة الاسلاموفوبيا المتضخمة نتيجة عدم المعرفة بحقيقة الاسلام. أو نتيجة سوء معرفة حقيقة الاسلام.
وهذا يعني بموجب ما نصّت عليه الوثيقة ان على المسلمين ان يعملوا جاهدين، ليس فقط على نبذ العنف والكراهية، انما على التعريف بحقيقة الاسلام في سلوكهم ومعاملاتهم، وفي التزاماتهم الأخلاقية. ومن ذلك ما أشارت اليه الوثيقة من احترام الحرية الشخصية مع التأكيد على ان هذه الحرية لا تسوّغ بأي شكل كان، الاعتداء على القيم الانسانية، بما في ذلك، وبل وخاصة، تجاوز حريات الآخرين عند حدود الدستور والنظام.
ومن هنا جاءت دعوة وثيقة مكة في البند 21 الى تحقيق معادلة العيش المشترك الآمن بين جميع المكوّنات الدينية والإثنية والثقافية على اتساع الدائرة الانسانية. والى تحقيق المواطنة الشاملة كاستحقاق تمليه مبادئ العدالة الاسلامية لزوم التنوّع الوطني.
ومن هنا أيضاً، اعتبرت الوثيقة الاعتداء على دور العبادة عملاً اجرامياً. ودعت الى مواجهته بكل حزم. كما دعت الى التصدي للأفكار المتطرفة المحفزة عليه.
وشددت على «ان المواطنة الشاملة استحقاق تمليه مبادئ العدالة الاسلامية لعموم التنوع الوطني، يُحترم فيها الدستور والنظام المعبّر عن الوجدان الوطني بإجماعه أو أكثريته، وكما على الدولة استحقاق في ذلك؛ فعلى مواطنيها واجب الولاء الصادق، والمحافظة على الأمن، والسلم الاجتماعي، ورعاية حمى المحرمات والمقدسات، وذلك كله وفق مبدأ الاستحقاق المتبادل، والحقوق العادلة مع الجميع، ومن بينهم الأقليات الدينية والاثنية».
من هنا، تشكل وثيقة مكة المكرمة بنصّها الجريء والواضح والمباشر، وبرمزية مكان وتاريخ صدورها والموقّعين عليها من علماء العالم الاسلامي ومرجعياته، قاعدة أساسية وجوهرية تحدد علاقة المسلمين مع أنفسهم، وعلاقاتهم مع إخوتهم في الانسانية.
إن هذه المبادرة التي اتخذتها رابطة العالم الاسلامي لم تأتِ من فراغ. انها تكمّل، وربما تتوّج، سلسلة المبادرات الاسلامية العديدة الأخرى التي تتلاقى مع وثيقة مكة المكرمة حول مبادئ اسلامية ثابتة وأصيلة، منها ان الانسان مكرّم لذاته الانسانية، ومنها ايضاً ان الاختلافات بين الناس قائمة ومستمرة بإرادة إلهية. وأن الله، والله وحده، يحكم بيننا يوم القيامة في ما كنا فيه مختلفين.
وبالتالي فان احترام الانسان وحقوقه واحترام الاختلافات بين الناس، يعبّران عن احترام الإرادة الإلهية.
هكذا يعلّمنا الاسلام.. وهكذا تقول وثيقة مكة المكرمة.
نقلا عن صحيفة اللواء