في عالَم يعجّ بالأفكار ونقيضها، وتَطغى فيه قيم الصراع والنزاعات، وكذا الفوبيات المتعددة من الآخر، تبرز هنا وهناك أفكار إيجابية، ومشروعاتٌ ناجحة، تصدُر عن أفراد أو هيئات، ويكتب الله لها القبول والأثر الفاعل محليا وإقليميا ودوليا.
إن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى استحضار المعاني الإنسانية في جانبها الأخلاقي، وإلى ممارسة التأني والتحلّي بالرَّويّة وتغليب الحكمة وحُسن التدبير في الجانب العقلي، لإرساء لغة الحوار، ومدّ جسور التعاون على الخير، وبلورة القواسم المشتركة بين أتباع الأديان والثقافات، واستشراف عوامل بناء الثقة وإمكاناته، تقوية للعلاقات البينية على أسس من الكرامة والعدالة والمواطنة الشاملة، مع ضرورة الوعي بخطورة الأفكار الصدامية على الأفراد والمجتمعات، سعياً للوصول إلى عالم تَنحسر عنه الكراهية والعنف والعدوان، ويسوده الأمن والعدل والسلام.
وهذا ما يسعى لتحقيقه وإنجازه على أرض الواقع: قادة الأمّة المخلصون، وعلماؤها المعتبَرون، حيث لم ينساقوا إلى سلبية التعامل مع الآخر المختلف، ولم يُستجروا إلى خانة الصراع والصدام المرير، بل واجهوا الأمر بيقظة وفقهٍ رشيد، وتأصيلٍ علمي حكيم، يؤطره سداد عقلي، ونبوغ فكري، ورُقيّ عملي، وبُعد نَظر وبصيرة، فقدموا البديل الأصلح والأحكَم، حين تبنّوا الحوار مُرتكزا للتواصل مع الآخر، وأعملوا دائرة المشتركات الجامعة، وما أكثرها! جلباً للمصالح، ودفعاً للمفاسد، فقابلوا عبثية الصراع بأطروحات الحوار والتعايش مع أتباع الأديان والحضارات، وواجهوا فكر الإقصاء والتهميش بنشر الوئام وتعزيز السلام.
وهكذا، فوّت العقلاءُ على دعاة الصدام فرصة تحويل العالم إلى حلبة وحشية تصنع المآسي وتجدّد الأحزان، وتستعيد الجانب المُظلم من أحداث التاريخ وذكرياته المؤلمة، وتَرسم صورة كئيبة لمستقبل لاهب لا يحول دون قتامه إلا تعزيز لغة الحوار والتواصل مع الآخر في ضوء القواسم المشتركة، والمصالح والمنافع المتبادلة، واستعادة الوعي بالمسؤولية الإنسانية في بناء السلام العالمي.
وكان من حُسن الطالع والفأل الحسَن على التاريخ المعاصر: بروز شخصيةٍ عالمية مرموقة، ذات صفات قيادية مميّزة، أهّلَته بجدارة واستحقاق لحمل راية (الحوار الحضاري) من خلال قيادته الحكيمة للمنظمة العالمية الرائدة (رابطة العالم الإسلامي)، حيث العِلم الشرعي الرصين، مع البصيرة الثاقبة، في بُعد نظر وامتياز مستحق نحو بناء العلاقات على المستوى الشخصي والمؤسسي، ماضياً بالرابطة في قيادة استثنائية، نحو الوفاء لرسالتها العالمية وتحقيق ما فيه خير الإنسانية وسعادتها.
إنه معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، راعي الانطلاقة الحديثة للرابطة، وصانع رؤيتها المستقبلية المتجددة -وفقه الله- فمنذ اعتلائه رأس الهرم في هذا الصرح الإسلامي، وهو يواصل ليله بنهاره، موليا اهتمامه باستثمار تاريخ الرابطة في تعزيز دورها الإسلامي والإنساني، وإبراز مكانتها دوليا، وإعطاء مناشطها بُعدا واسعا، وحضورا عالميا من خلال تجديد رسالتها الحضارية المتمثّلة في التعريف بحقيقة الإسلام، وإظهار صورته الناصعة، ومبادئه السمحة، وإزالة التشوهات التي أُلصقت به زورا وبهتانا، والعمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة لأحكام الدين وثوابته وقيمه وأخلاقه، والسعي إلى تعزيز العمل المشترك بين أتباع الأديان والثقافات؛ لترسيخ قيم التعايش والسلام، والتصدي لثقافة العنف والصدام.
وقد أبدى معاليه اهتمامه الخاص بمحور (الحوار الحضاري)، ومنَحه وقته وعنايته، وسخّر له جهده واهتمامه، فقد شغله الانسداد الذي وصل إليه الحوار بعد خمسين سنة من انطلاقته، فعمل على لَمْلمة ما تناثر من إيجابياته وتوظيفها في استعادة تفعيل هذا المشروع وإحيائه، من خلال كلماته وخطاباته في مختلف المحافل الدولية، وكذا من خلال لقاءاته مع الرؤساء والقادة وكبار الشخصيات، وحضوره الفاعل في المناشط التي تقدّمها الرابطة داخليا وخارجيا.
والمتتبّع لخطاب الشيخ العيسى يلحظ البون الكبير بينه وبين الحشو المطروح في بعض المؤسسات الدينية والفكرية، فالشيخ مع تضلّعه من العلم الشرعي وعُمقه الفكري، امتاز بخطابٍ دينيّ وسطيّ معتدل، فقد جاء من خارج الصراعات الممتدّة بين التيارات الإسلامية المتنوعة، وغيرها من الأطروحات الإسلامية المتناحرة؛ ليأخذ على عاتقه تجديد المفاهيم وإصلاحها، وإعادة ما أفسدَته الصراعات المختلفة والتيارات المنحرفة، والأخْذ بمقاصد الشريعة وكلياتها وقطعياتها، ومنابذة الحشو الذي لا فائدة منه في الخطابات المعاصرة وعباراتها الطوباوية المعبّرة عن جهل بالواقع وتعثّر في إدراك مقاصد الشرع وضوابطه، مما يُشعر القارئ بتفاؤلٍ كبير نحو مستقبلٍ مُشرق، في ظل مشروع الاعتدال والوسطية الذي يرعاه ويتبناه -راعي التسامح والاعتدال العالمي- صاحب السمو الملكيّ الأمير: محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، وليّ عهد المملكة العربية السعودية.
لقد أبلى الشيخُ العيسى البلاء الحسَن في تبنّي الفكرة الحضارية الرامية إلى التعاون والتكامل بين الحضارات المختلفة عبر نقاط الالتقاء الكثيرة، فطاف العالم شرقاً وغرباً، وتجوَّل بين دول العالم وعواصمه الكبرى، مؤكّداً على أصالة مبدأ الحوار في المنظور الإسلامي، عاملًا بدأب على تثبيته في الواقع، مُركزا في لقاءاته على تقديم رؤيةٍ كلّية شمولية تكاملية للحوار الحضاري، مناشِدا الجميع بعدم إثارة الصراعات الدينية التي تَفتح أبواب الشر والفتن، مقدّما العديد من الرؤى والمبادرات التي من شأنها تقريب وجهات النظر وحلّ المشكلات وإنهاء الصراعات، واستعادة الثقة بين الجميع، مستشهدا في الوقت نفسه بإرث الحضارة الإسلامية التي بادرَت عبر تاريخها المشرق بالتواصل مع الآخر أيّاً كان.
كما طالب الشيخ العيسى المجتمع الدولي-ممثّلا بمنظماته ومؤسساته الدينية والسياسية- بالتعاون الفاعل مع الرابطة للوصول إلى صيغةٍ توافقية، تَضبط سلوك الأفراد والشعوب والمجتمعات، وتقضي على التوتر والقلق وانعدام الأمن، وتَسُوس الإنسانية بالحكمة والعدل، وتأخذ بيدها نحو الخير والصلاح، على ما فيها من تنوعٍ وتعددية واختلاف، وتقدّم الحدّ الأدنى لتعايشٍ سِلميّ عالمي، لا ظالم فيه ولا مظلوم، وتوجّه البشرية كلّها إلى التآلف والتعارف والتعاون، والسعي الدؤوب لما فيه الخير والنفع للجميع.
وقد تمثّلَت دعوتُه في الحوار الحضاري إلى تبنّي مبادرة عالَمية من (لاءات أربع) أطلقها الشيخُ في كلمته الافتتاحية بمؤتمر (التواصل الحضاري بأمريكا)، والتي تمثّل الدعائم الرئيسة لأسس التواصل الحضاري بين الشعوب والثقافات، وهي:
ومن خلال التتبّع والاستقراء لجهود الشيخ العيسى في بناء برنامجه الفكري للحوار الحضاري نجد أنه اعتمد على جملة من المرتكزات، المنغرسة في وجدانه، والمعبرة عن هُويّته الإسلامية، ونَزعته الإنسانية، وتقديره الكامل لكل ما من شأنه أن يَنشر ثقافة التعايش والحوار، ويُحقق الخير للبشرية، والتي مثّلَت نسيجا فكريا متكاملا، ومشروعًا إصلاحيًا واعداً، انطلق منها الشيخ لبثّ فكره الوسطيّ المعتدل، فجعَلَ من ثوابت الدين أصلًا، واتخَذَ من مكارم الأخلاق هدفًا، واستند إلى نصوص الشرع الحكيم تأصيلا.
ويتلخص هذا المشروع الفكري إجمالا في عشرة مرتكزات، بيانها فيما يلي:
المرتكز الأول: الاستمساك بثوابت الدين، وهي أصوله ومُحْكَماته المجمَع عليها، والتي لا يجوز التفريط أو التهاون فيها أبدا، ويَشمل أصول المعتقدات، والعبادات، والمعاملات، ومكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل.
والاستمساكُ بثوابت الدين مرتكَزٌ لا مَحيد عنه في المشروع الحضاري للشيخ العيسى، فمنها ينطلق، وإليها يثوب، ومن نورها يَستوحي منهجا قد سار عليه قبله الفقهاء الأعلام، كلٌّ بحسب عصره ومِصره، ساعده في ذلك تضلّعه من العلوم الشرعية، وخلفيته الفقهية، وممارسته القضائية، مما جعلَه يَبني دعائم منهجه على أسس متينة من الأصول العقدية والشرعية والأخلاقية، تَمنحه حمايةً للذات، وتُكسبه مرونةً في التعامل مع كافة الأطياف.
ولهذا نجد الشيخ العيسى كثيرا ما يركّز على محورية الدين وعُمق تأثيره في الوجدان الإنساني وأهميته كمرتكز أساس للحضارة الإنسانية، فحين اجتمع مع المسلمين المقيمين بفرنسا، أشار إلى أن هدفَه الأسمى في قيادة الرابطة هو «خدمة الإسلام والمسلمين، وإعطاء الصورة الذهنية الإيجابية عن الإسلام لدى العالمين، فما انتشر الإسلام إلا بسُمعته الطيبة».
وفي مداخلته أمام أكثر من خمسة آلاف شخصية من المفكرين بإيطاليا، أشار الشيخ إلى مزايا الإسلام وواقعيته، فكان مما قاله: «أي دين لا ينسجم مع الحياة لا يمكن أن يُكتب له البقاء بما يزيد على الألف وأربعمائة سنة، هي عمر الإسلام حتى اليوم، وهو لا يزال ضمن أكثر الأديان توزّعا جغرافيا، وكثرة في النمو»، وقال أيضا: «استشعرنا أهمية إيضاح حقيقة الإسلام الذي أحبّ وتعايش مع الجميع، بعد أن حاول التطرف المعزول إسلاميا الإساءة إليه من قبل أشرار وجُهّال».
وأدرك معاليه أن ظاهرة (الإسلاموفوبيا) ما هي إلا مزيداتٌ سياسية ومناكفاتٌ إعلامية لا تتعلق بحقيقة الإسلام، وما هي إلا محاولات مشبوهة تستولد دُفعات جديدة من المتطرفين على الجانبين، فالتطرف يقابله التطرف المضاد من قبل المتسرّعين وقليلي الوعي.
وحول بيان منهج الرابطة ورسالتها في الاستمساك بثوابت الدين، قال معاليه: «إننا في رابطة العالم الإسلامي نحرص على أن نقدّم خطابا عالَميا يسجّل لعالَمية الرابطة، ويسجّل لعالَمية الرسالة الإسلامية التي جاءت لنشر السلام والمحبة وتقدير الرأي الآخر واحترامه، وهذه هي النظرة الإسلامية المعتدلة التي يجب أن نقدّمها للجميع، وأن نحافظ عليها».
وذكر معاليه في مؤتمر ماليزيا: «أنه ليس هناك من أحد حجّة على الإسلام سوى نصوصه الشرعية، ونبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم، وذلك أن في بعض أحداث التاريخ والكتابات العلمية والفكرية مداخل سلبية محسوبة في حقيقتها على أصحابها لا على الإسلام، لكن أخطاءها ومجازفاتها وأهدافها المادية حُمّلت -خطأ أو عمدا- على الإسلام والمسلمين، وأنه ليس هناك دين في أصله تطرف، ولكن أثبت لنا التاريخ وجود أناس متطرفين فيه، كل ذلك سار على الجميع بين مدّ وجزر، ومن زمن لآخر، يَعلمه كل مُستطلِع واع ومنصِف».
المرتكز الثاني: تعزيز ثقافة التعايش والتسامح، لأنه الأصل في بناء الذات الإنسانية السوية، فالخيرية في الإسلام لا ترتبط بجنس أو لون أو طائفة، بل تدور حول الإيمان والاستقامة عليه، بدلالة الإحسان إلى الخَلق جميعا، فـ «أحب النَّاسِ إِلى الله أنْفَعـهم للناسِ»، والله تعالى خَلق الناس قبائل وشعوبا مختلفة، وحضارات متنوعة؛ ليتعارفوا ويشيّدوا هذه الأرض ويعمروها بما فيه خيرهم ونفْعهم «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
وهذا ما يؤكده الشيخ العيسى في زياراته حول العالم، وعبر حلقات النقاش والحوار التي يَعقدها مع المفكرين والقادة الدينيين، ففي زيارته لرئيس اتحاد كنيسة البروتستانت في (باريس)، قال: «عندما نزور هذه المؤسسة الدينية، نؤكد للعالَم تواصلنا وصداقتنا للجميع، لقد زُرنا العديد من المؤسسات حول العالَم لتعزيز التعاون، وتحقيق الهدف والرسالة التي تسعى إليها الرابطة، وهي نشر السلام والوئام بين الإنسانية».
ودأب الشيخ العيسى في معظم كلماته الافتتاحية لمناشط الرابطة على ترسيخ هذه القيم وتأصيلها، مفنّدا أقاويل التطرف، ومحددا موضع الخلل في فهمها، فقد جاء في كلمته في مؤتمر بريطانيا: «إن التسامح من قيم الإسلام الرفيعة التي حفلَت بها النصوص الشرعية والسيرة النبوية باعتبارها في طليعة القيم الخُلُقية التي حث عليها الإسلام في مجالات الحياة كافة، ولاسيما أن تلك القيم السامية تتعارض مع منهج التطرف القائم على التشَدُّد والتحريْضِ والموَاجَهةِ، وحَمْلِ النُّصوصِ على تأويلات باطلة».
وفي مؤتمر جنوب أفريقيا، قـال معاليه: «الإسلام يؤكد ضرورة الأخذ بقيم التسامح، والتعايش، واحترام حقوق الإنسان، وأن التطرف قد استفاد من ظاهرة الكراهية؛ لأنها دعمَت نظرياته، وزادت من أتباعه؛ حيث يقوم الإرهاب على أساس أن الآخر يكرهنا، ويحاربنا، لذلك لابد من مواجهة الكراهية بعزيمة قوية، ووعي كامل بمخاطره حتى نعيش بسلام».
هذا التعايش والتعاون قد يظنه البعض عسير المنال، وصعْب التحقق، نظرا للهُوّة المفروضة قسرا بين الحضارات والثقافات، لكن الشيخ العيسى يحاول تقريب الشقّة، وسدّ الفجوة، وتضييق الخلاف، ويبيّن القنوات المهمّة لتيسير التعاون، وذلك بالارتكاز على أمرين اثنين، هما: (المشتركات الإنسانية، والمصالح)، وهو ما عبّر عنه معاليه في المنتدى الحضاري الدولي المنعقد بجنوب إفريقيا ، حيث قال: « إن أتباع الأديان والثقافات أحوج ما يكونون إلى تعزيز تواصلهم الإنساني وتلاقيهم وتعاونهم في إطار المشتركات والمصالح»، ولتحقيق ذلك، دعا في مؤتمر واشنطن إلى «عقد اللقاءات الدورية للتذكير والمذاكرة حول المشتركات بين الأديان والثقافات، ومن ثَمّ الانفتاح والتعاون والتعايش على ضوئها».
إن الحوار الحضاري الذي يدعو إليه الشيخ العيسى، لا يعني بحال: قناعة كل منا بوجهة نظر الآخر أو عقيدته أو أفكاره، بل تجعلنا نفهَم سنّة الله تعالى في وجود الاختلاف والتعدد والتنوع وبقائه، ووجوب التعايش والتعاون على ضوئه، خدمة للمصالح المشتركة، ومن ثَمّ الوصول إلى تعزيز السِّلم الاجتماعي والأمن الفكري ودحْر الشر وهزيمته، مع ترسيخ مفاهيم أصيلة في الوجدان الإنساني كالبرّ والإحسان واحترام الآخر، وحِفظ الحقوق والحريات المشروعة، دون تمييز دينيّ أو عرقيّ أو سياسيّ أو فكريّ، فالقيم الأصيلة والمفاهيم الراسخة لا تَقبل التجزئة والكيل بمكاييل مختلفة.
المرتكز الثالث: ترسيخ قيم الوسطية والاعتدال، وهما من القيم المرجعية العليا في الشريعة؛ وتعزيزهما في المجتمعات سبيل القضاء على مظاهر التشدد والتزمّت، وكذا الاستهتار والتحلل، وبهما يتحقق بناء مجتمع إسلامي رصين تغيب فيه مظاهر الإفراط والتفريط، وينحسر عنه التطرف والإرهاب، كما يُسهمان في تحقيق واجب الاستخلاف، واستيعاب سنة الاختلاف، ببث روح التفاهم بين أتباع الديانات، بعيدا عن الاحتراب والتنازع، وبناء جسور الثقة والتفاهم بين الأمم والشعوب بترسيخ معاني الاحترام والوئام.
لهذا ركّز الشيخ العيسى على هذه القيمة المنهجية والأخلاقية، لأهميتها البالغة في الحوار؛ وأكد في مناسبات متعددة على براءة الإسلام من مقولات التطرف، وتميزه بالفكر الوسطي السائد في تاريخ المسلمين المديد.
ففي زيارته لأندونيسيا، ذكر معاليه: «أن الاعتدال في فهم الإسلام وتطبيقه سِمة واضحة في وجدان الأمة الإسلامية، تأسيا برعيل الأمة الصالح في مواجهة شذوذ الأفكار والرؤى المنحرفة حول الإسلام والإنسان والمجتمع، وأن الوسطية الإسلامية هي الركيزة الأساسية لسلامة الفكر من الانحراف، والمحافظة على الاعتدال في فهم الأمور الدينية والسياسية والاجتماعية، وهي التي تَحفظ الدين والكيان العام للأمّة، وتُحقق للمجتمع الأمن والاستقرار».
وفي مؤتمر باكستان حول (الخطاب الوسطي)، أكد معاليه على حِرص الرابطة الدائم على بيان حقائق الإسلام ومبادئه السمحة، ودأبها في ترسيخ منهج الوسطية والاعتدال، والتصدّي لتيارات الانحراف والضلال، وحِرصها الشديد على تحقيق حاجة الجميع للقيم العالية التي تمثّل سمة الإسلام الحق، داعيا معاليه إلى تكوين خطاب سامٍ بسُموّ مصدره، يتسم بالوسطية والتوازن في محاكماته، ويتحرّى الصدق والحقيقة في مادته، ويراعي الجمالية في روحه وأسلوبه، ويترفع عن التجريح والحدّة في تناولاته، ويحافظ على الارتقاء بالجميع وعياً وسلوكاً في أهدافه ورسالته.
وأثناء لقائه بمجلس الشيوخ الفرنسي ذَكر معاليه: «أن الرابطة تهتمّ بنشر الوعي الديني الوسطي والمعتدل الذي يَحترم القيم الأخلاقية والإنسانية، وأن يكون هذا الوعي مرتكَزا لاحترام الدستور والقانون والثقافة، وكذا احترام الديمقراطية».
وتوّج الشيخ العيسى جهوده في تعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال بحدَثٍ بارزٍ لا نظير له في التاريخ الحديث، والمتمثل في عقد مؤتمر(قيم الوسطية)، وصدور(وثيقة مكة المكرمة) من جوار الكعبة المشرفة، والتي تَحمِل في طياتها عِقداً من قيم الإسلام الرفيعة، مبينة المنهج السوي للخطاب الديني الوسطي المعتدل المستمد من منبعه الأصيل، وكان من بنود هذه الوثيقة: «تحصين المجتمعات المسلمة، مسؤولية مؤسسات التربية والتعليم بمناهجها ومعلّميها وأدواتها ذوات الصلة، وعموم منصات التأثير، وبخاصة منابر الجمعة، ومؤسسات المجتمع المدني، مستوجبةً توعية عاطفتهم الدينية، والأخذ بأيديهم نحو مفاهيم الوسطية والاعتدال، والحذر من الانجرار السلبي إلى تصعيد نظريات المؤامرة، والصدام الديني، والثقافي، أو زرع الإحباط في الأمّة، أو ما كان من سوء ظنٍّ بالآخرين مجرد أو مبالَغ فيه».
المرتكز الرابع: تفكيك خطاب الغلو والتطرف، وكانت هذه الظاهرة محلّ عناية الشيخ العيسى بحكم قيادته للرابطة، فدرَس أبعادها الإقليمية والدولية، وتباحث حولها مع صُنّاع القرار، وعمل على النظر في مسبّبات الوقوع في شراكها، وإيجاد مقاربة نقدية لتفكيك خطاب التطرف ومغالطات أصحابه، والإحاطة بمحدداته الدينية والنفسية والاجتماعية والسياسية، مع طرح الحلول الكفيلة بتحصين المجتمعات، والحيلولة دون وقوعها في حبائل المنظمات الإرهابية.
كما حث الشيخُ العلماء والمفكرين والهيئات الدولية على استئصال الفكر المتطرف المجافي للإسلام، وتطهير المجتمعات من آثاره، بإبراز القيم الإنسانية النبيلة التي دعَت إليها الشرائع السماوية، في سعيٍ حثيثٍ صادق من معاليه للوصول إلى مجتمعات سويّةٍ آمِنة.
ففي زيارته لليابان قال معاليه -مبرزاً موقفه من آفة التطرف-: «إن مثل هذه اللقاءات تَجمعنا فيها القيمُ المشتركة نحو مفاهيم الاعتدال الديني، ومفاهيم السلام والوئام الإنساني؛ لنؤكد للجميع توافُقَنا، وتحالُفَنا في مواجهة كافة أشكال التطرف والعنف أياً كان مصدره ونوعه».
ولم يكتفِ الشيخ العيسى بإدانة التطرف، بل حمَل مجهر الخبير في دراسة مسبباته، ففي مؤتمر (ستراسبورغ) ربَط معاليه بين التطرف وأسبابه الموضوعية التي أوقعَت الكثيرين في شراكه، وأهمها: اجتزاء النصوص الدينية، وعدم فهم مقاصد هذه النصوص ومعانيها، وقلة الوعي في التعامل مع النص الديني سواء الإسلامي أو غير الإسلامي، وعدم الإلمام بطريقة التعامل مع النص القانوني والدستوري في أي قانون أو دستور؛ حيث يحتاج ذلك إلى عقلية قانونية ودينية تفهم النص، وتتعامل معه، وتشرح كذلك حقيقة النص وتفسره، والنص لا يأتي بمفرد، وإنما يأتي بمجموع النصوص ذات العلاقة به.
والشيخ العيسى في محاربته للتطرف، لا يَقبل انتقائية في معايير القيم، ويَرفض النظر إلى تطرفٍ دون آخر، ويدعو إلى إدانة جميع أنواع التطرف ومحاربة كافة أشكاله وصوره أيا كان مصدره، لذا قال أمام جمْع من المفكرين الفرنسيين: «هناك بعض التحديات، وهي ليست قوية أمام الحقيقة، أولها: التطرف المحسوب زورا وظلما على الإسلام، والتحدي الثاني: هو التطرف المضاد، وهو الإسلاموفوبيا».
وبنحوه قال في مؤتمر (ماليزيا): «إن قيم الاعتدال في الإسلام غابت كثيرًا عن مفاهيم التطرف؛ سواء المحسوب زوراً على الإسلام، أو التطرف المضاد المتمثل في ظاهرة الإسلاموفوبيا؛ فنتجَت عن ذلك صراعاتٌ وأعمال عنف، يتحمّل كل منهما مسؤوليته، مع الأخذ في الاعتبار أن كليهما مستفيد من الآخر؛ فالتطرف الديني يراهن كثيرًا على استفزازات الإسلاموفوبيا لمشاعر المسلمين؛ فتنشأ عن ذلك الصراعات الفكرية والصدام الحضاري، وهو بهذا الرهان يكسب المزيد من الأتباع المغرر بهم، وإن التطرف المضاد يراهن كثيرًا على همَجية التطرف الديني من أجل إيهام الآخرين بصحة نظريته الكارهة ضد الإسلام، ومن ثم تمرير مزاعمه».
ويرى معاليه أن التضخيم الإعلامي لِما يُصطلح عليه بالتطرف الإسلامي، ليس خصوصية إسلامية، بل هو من المشترك الإنساني الذي تتقاسمه جميع المجتمعات في دورات التاريخ، فالغلو والتطرف من المفاهيم العابرة للحدود والحضارات والثقافات، فلكل حضارة غلو وتطرف وقع فيه بعض أبنائها، وهي منه براء.
وغالبا ما يؤكد الشيخ العيسى في تصريحاته على ضرورة التشارك من أجل إلحاق الهزيمة بالعدو المشترك للإنسانية، وهو التطرف والتعصب، وذلك بإظهار تهافت أطروحته وبيان لا إنسانيتها، وبمحاصرته وتطويقه في كل المجالات، ففي مؤتمر (ماليزيا) قال الشيخ: «إن مشروع مواجهة التطرف، والتطرف المضاد، يتطلب منا: أن نمنع كافة أساليب محاولات اختطاف الشباب المسلم التي يقوم بها مزوّرو دلالات النصوص الشرعية، ومثيرو عاطفتهم الدينية، وأن نقيم في سبيل ذلك البرامج والمبادرات التي تكشف حقيقة كذب التطرف وتضليله، مع السعي لأن تصل للجميع؛ ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وذلك لأن التطرف استطاع أن يقيم له عالَماً افتراضياً عابراً للقارات، دون أن يحتاج لتأشيرات دخول ولا تراخيص عمل، مثلما أعلن مؤخّراً أن دولته الحقيقية ليست مجرد كيان جغرافي محدود؛ بل هي كيان افتراضي لا حدّ له».
وكشف الشيخ العيسى الوسائل التي ينبغي الأخذ بها للوقوف أمام مدّ هذه الظاهرة، والحد من انتشارها، حيث قال: «إن ذلك يتطلب منا جميعًا التعاون لمواجهته بتحدٍّ أقوى وأمكن؛ مدركين أن القضاء التام على الفكر المتطرف ليس في مجرد مواجهته العسكرية، مع أهمية هذه المواجهة العسكرية وضرورتها؛ ولكن في مواجهة الفكر بالفكر؛ حيث يقتلع من جذوره؛ فالتطرف لم ينشأ عن كيان سياسي، ولا قوة عسكرية؛ وإنما عن أيديولوجية، وعلينا كذلك منْع أي أسلوب من أساليب إقحام الدين في الموضوعات التي تركتها الشريعة دون تدخل؛ فيما يحاول التطرف بتكلفه ومغالطته الزج بالنصوص الشرعية فيها، كما علينا تطوير منصات التأثير الديني والمناهج التعليمية الدينية؛ ولا سيما تضمين هذه المناهج المواد المحصنة لعقول شبابنا؛ بحيث تتركز على المعلومة الشرعية المؤصلة، في سياقها الآمن والحصين، بعيداً عن الدخول في سلبية الجدليات الفكرية والتاريخية، أو إثارة العواطف الدينية».
وبراءة الأديان من التطرف لم تَمنع الشيخ العيسى من تذكير رجال الأديان ومؤسساتهم بمسؤولياتهم، ففي الملتقى الدولي بجنيف قال: «إذا كان الربط بين الأديان وأفعال معتنقيها مرفوضاً؛ فإن هذا لا يُعفي القادة الدينيين من مسؤولياتهم في توضيح حقائق الدين وبيان موقفه الرافض لاستغلاله في تسويق الصراعات السياسية، وخدمة المصالح العالمية».
وحيث إن حملات الغلو والتطرف تقف خلْفها ترسانةٌ قوية من الفتاوى الشاذة، فقد طالب الشيخ العيسى بالحدّ من تأثير هذه الفتاوى بوضع الضوابط الشـرعية التي تنظّم الفتوى، وتراعي متغيرات الواقع، وبتشجيع الفتاوى الجماعية في النوازل والشأن العام، والعنايةِ بالشباب، والتواصلِ معهم لحلّ مشكلاتهم، وتصويب مفاهيمهم، وتحصينِ أفكارهم بالعلم الصحيح والأسلوب الحكيم، وتشجيعِ البحوث والدراسات التي تؤصّل لمبادئ الإسلام وقيمه النبيلة، وتُفنّد شبهات المتطرفين، وتعالج أفكارهم المنحرفة.
وأمام هذا التهويل المتعمّد لظاهرة التطرف فقد وَضع الشيخ العيسى هذه الظاهرة في حجمها الطبيعي، فأعداد المتطرفين لا تشكّل إلا نسبة ضئيلة تشبه تلك التي نراها في نسب المجرمين في مختلف المجتمعات، وفي ذلك أبلغ الرد على الأكاذيب التي تُلصق التطرف بالإسلام ، وفي هذا السياق قال معاليه في (مؤتمر نيويورك): «إن التطرف لا يشكّل في الحقيقة إلا نسبة ضئيلة لا تُستَحق أن تُذكر، حيث لا تزيد نسبته -وفق آخر الإحصاءات التقديرية- عن واحد من مائتي ألف نسمة من مجموع المسلمين في العالم، وهذه النسبة بفضل جهود المحاربة الفكرية والعسكرية تتقلّص تدريجيا تقلّصا واضحا وملموسا».
المرتكز الخامس: نَبذ مفهوم التصنيف والإقصاء، وهي ظاهرة سَلبية تعبّر عن حالة مرضية خطيرة في المجتمعات، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء وعدم الاعتراف بالآخر، ونبْذ المساحات المشتركة، وإحياء الأنانية، والإعجاب الخادع بالكفاءة والقدرات الذاتية.
لذا تفطّن الشيخ العيسى لخطورتها على الأوطان والمجتمعات، فوجّه اهتمامه نحو توعية الإنسانية بخطرها وتقويضها لأسس التواصل الحضاري، مؤكدا على دور القيادات الدينية في مقاومة أطروحات الكراهية والإقصاء، وتكثيف الجهود لمحاربة مفاهيم التشدد والانغلاق.
ففي زيارته لجمهورية الشيشان ولقائه برجال الحكومة، لفَت معاليه النظر إلى أن بيان الحق سواء في الفروع أو الأصول يكون في إطار أدب الإسلام وسَمته الرفيع، بعيداً عن الإساءة والتجريح، أو المبادرة بالإقصاء عن جماعة المسلمين.
وفي ندوة دولية باليابان، أوضح الشيخ العيسى عن أثر مفهوم الإقصاء في تكوين حالة التخبّط الذي يعيشه المتطرف، فقال: «يمكن أن نَصِفَ التطرف -باختصار- بكونه يُمثّل حالةً من التشبّع بصواب الرأي يصاحبها إقصاء، وكراهية للآراء الأخرى، وقد يتطور هذا التصور إلى اعتبار الرأي المخالف مهدداً ليس لرأيه فقط، بل لكَيانه الذي يَحمل التطرفَ على المواجهة والصدام، ومن ثَمَّ القناعة التامّة بعدم الإيمان بحق الوجود أصلاً للمخالف».
كما لفَت الشيخ الأنظار إلى العلاقة بين الإقصاء والإسلاموفوبيا، وذلك أثناء كلمته في (مؤتمر الأزهر)، حيث قال: «وقد قابل شؤمَ التطرف الإرهابي تطرّفٌ مضادٌّ، وخطابُ إقصاءٍ كارهٍ، أنتج سطحيةَ بل مجازفةَ الإسلاموفوبيا، وحَكَمَ بمعايير عشوائيتِهِ وكراهيتِهِ على مليار وست مئة مليون مسلم، بجريرة ما نِسبته تطرف واحد من بين مئتي ألف نسمة، هم على هَدي الاعتدال».
ويَحمل هذا المرتكز أهمية كبرى في منهج الشيخ العيسى الذي كرّس جهوده لأجل استشراف مجتمع متعاون ومتكاتف، بعيدا عن مظاهر الانغلاق والتشدد، فجاءت مبادرته الرائدة بعقد مؤتمر عالَمي بمكة، بعنوان: (الوحدة الإسلامية... مخاطر التصنيف والإقصاء)، شارك فيه نخبةٌ متميزة من علماء الأمّة ومفتيها ومفكريها ، من (127) دولة، اجتمعوا تحت سقف واحد، متجاوزين الشعارات والمفاهيم الضيقة، متحلّين بروح الانفتاح والتسامح، في سبيل تعزيز الوئام الديني والوطني، وتفعيل المشتركات الأخلاقية والإنسانية، للوقوف سدّا منيعا أمام أصوات الكراهية والصدام، ومواجهة كافة أشكال العصبيات والعنصريات؛ ليَحمل المؤتمر رسالة للعالَم في بيان وسطية الإسلام واعتداله وقيمه الإنسانية وعطائه الحضاري ووحدة مكوناته التي تسامَت على الفارق المذهبي والعرقي واللغوي والثقافي.
وكان من روائع ما ذكره معاليه في كلمته الافتتاحية في المؤتمر، قوله: «ما أحسن أن يكون الأخ قريباً من أخيه، حَسَنَ الظن به، يُبادره بقبول عُذره وتفهُّم سُنّة الله في الاختلاف والتعدد، مع تِبْيَان ما يراه حقاً وصواباً بالحكمة والموعظة الحسنة، دون استعداء ولا استعلاء ولا تشهير، فضلاً عن مجازفات التكفير ونحوه».
وكعادة الشيخ العيسى، فإنه لا يرفُض مسألة إلا ويَطرح لها بديلا أو أكثر، فحين رفَض الإقصاء والصراع، طرَح بديلين له غاية في الأهمية، وهما:
- الانفتاح الإيجابي: كما أشار إليه في (غروزني) بقوله: «الانفتاح الإيجابي على الآخرين هو عنوان مفاهيمنا الإسلامية»، وقال في سانت بطرسبرغ «الانفتاح الإيجابي مع مهارة الاستشراف والتواصل من أسس القيادة نحو الريادة الحضارية».
- الحوار الأَخَوي: وأشار إليه في زيارته لدولة (غانا) حيث ذكر أن البشرية لن تسعد في وئام وسلام ورقي وتنمية إلا عندما تسود الجميعَ أجواء المحبة والتسامح، واستيعاب سنّة الخالق سبحانه في الاختلاف والتنوع، وعندما يسود الحوار الأخوي المنفتح.
المرتكز السادس: استيعاب ثقافة الاختلاف والتعددية، فالاختلاف بين البشر أمرٌ بدهي وواقعيّ يسلّمه الجميع، كما أوضح ذلك ابن القيم بقوله: «وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب.. لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية».
ومن هنا كان وجود الاختلاف والتعدد والتنوع سنّة كونية مطردة في حياتنا البشرية، وفطرة طبيعية فطر الله الناس عليها، فمنذ أن خلَقهم ولا يزالون مختلفين، ولو شاء الله لجعلَهم أمّة واحدة، بلسان واحد، ولون واحد، وعِرق واحد، ولكنه اختار لعباده التعدد والتمايز على مستويات عدة، لاعتبارات وحِكم لا يحصيها إلا هو: «لكلّ جعلْنا منكم شِرعة ومنهاجا».
يقول الإمام ابن كثير: «ولا يزال الخلاف بين الناس في أديانهم، واعتقادات مللهم ونِحلهم ومذاهبهم وآرائهم»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الاختلاف من لوازم الطبع البشري، لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك».
وما نراه اليوم من الصراعات والحروب في بعض المناطق والمجتمعات، هو عنوان فشل في إدارة الخلاف، وصورة لتآكل ثقافة الاختلاف والتعددية وعدم استيعابه، فمازال فينا من يجهل أن الاختلاف والتنوع قدَرٌ إلهيٌّ محتوم لا يغالَب، وآيةٌ من آيات الله تعالى، ليس فقط في عالَم الأكوان والطبيعيات، بل في الاجتماع الإنساني والعمران البشري، وفي شؤون الأمم والحضارات، وعلى المجتمعات تقبّل ذلك واستثماره في بناء مشترك إنساني، وتأسيس مشروع فكري حضاري، يتجنّب الصراع والصدام، ويَجلب الخير للجميع.
من هذا الأساس المتين وعَبْر هذه الرؤية الواضحة، انطلَق الشيخ العيسى في مشروعه للحوار، حيث أكد أنّ عالَم اليوم يتطلع إلى أسلوب تربوي جديد يُعلّم النشء أسس التفكير الصحيح، ويُعزز فيهم احترام الآخرين وتقبّلهم، ويرسّخ لديهم الإيمان بأن الاختلاف والتنوع طبيعةٌ بشرية، وسنّةٌ إلهية مطردة، يتطلّب من الجميع استثمارَه وتوجيهه نحو التنافس في الخير.
ففي مؤتمر أمريكا، قال معاليه: «إن الرابطة تَحمل رسالةً إنسانية عالَمية، تدعو فيها للتواصل والتفاهم والتقارب لخدمة المصالح المتبادلة، مع ترسيخ الوعي بأن الاختلاف والتنوع والتعددية سنّة إلهية، يجب أن نوظّف لها الوعي والفكر الذين منحهما الله لنا، لنصل للصواب الذي نريده، على أن لا نُكره غيرنا على رأينا، وأنه ما لم نُؤمِن بهذه السنّة الإلهية فإن البشرية ستكون في صراع دائم، لأنه لا يمكن أن يكون على أرضنا كلها رأي واحد».
وأثناء زيارة معاليه لجنوب أفريقيا لفَت النظر إلى أن البعض لم يستوعب سنّة الخالق في وجود الاختلاف والتعددية، وأن هذه السنّة الكونية يجب أن نعيَها جيداً، ونستفيدَ منها، وألا تَحُول بيننا وبين التعاون والتعايش والتسامح، وأن دين الإسلام يحتضن الجميع، ويتجاوز الخصومات، ويحترم الكل، وأنّ نصوصه تدعو للمحاورة والسِّلم والمصالحة، وتؤكد أن الاختلاف من طبيعة البشر، ولا يمكن أن يكون الناس كلهم على طريقة واحدة، ورأي واحد.
وفي خطوة إلى الأمام رأى الشيخ العيسى أن الاختلاف بين البشر في الألوان والألسن وغيرها يمكن أن يمثّل مصدر ثراء وغنى للبشرية، وينبغي استثمار هذه التعددية لفائدة الإنسان وإسعاده، فقد جاء في كلمته الضافية في مؤتمر (قادة الأديان)، قوله: «عندما نتأمّل في تاريخ الصراع الديني والثقافي بين بني النفس البشرية الواحدة، نجده يعود إلى صِيْغَةِ تفكيرٍ خاطئةٍ، لم تؤمِنْ –ابتداءً- بسُنَّة الخالق جل وعلا في الاختلاف والتنوُّع، ولا حقِّ الاختيار الحُرِّ، بل وفي بعض مَشْهَدِ تَطَرُّفها العنيف لم تؤمِن حتى بحقِّ الوجود، كما لم تؤمن - ثانيةً- أنَّ تسامُحَها وتعاوُنَها ضرورةٌ من ضرورات تكامُلِ بقائها، وكرامَة ذاتها، والتاريخُ الإنسانيُّ شاهدٌ على ذلك بتفاصيلَ مؤلمةٍ تحكي وقائعَ همجيةِ التَّطرُّف، ووحشيةِ الإرهاب الناتجِ عن هذا العته العقلي، وعندما نتفهم خصوصية بعضِنا نحوَ القناعة الدينية والمذهبية والثقافية، بل والفكريةِ عموماً، نَصِلُ إلى مستوىً عالٍ من الحكمة والتحضر».
وفي سياق متصل أشار معاليه في مؤتمر (تنوع الديانات) إلى أن «الانغلاق الفكري والتقوقع، وعدم الانفتاح على الآخرين يعدّ من الأسباب الرئيسة للصراع، وإيجاد الكراهية، وإنتاج التطرف المضاد؛ وأنه لا بد من تعلّم قراءة أفكار الآخرين بتجرد، وألا يحجبنا عن الحق كراهيةٌ، ولا تعصبٌ، ولا مطامعُ مادية، وأن نُعَلِّم الناس، وخاصة فئة الشباب، أن نَتَدَاول الأفكار والآراء مع الآخرين، ونَتَّهِم آراءنا، وأفكارنا قبل أن نتهم غيرنا؛ حيث لا يوجد منا أحد معصوم عن الخطأ، والصواب يُشع لكل محايد بدليله المادي المقنع، ونُعلِّم الجميع كذلك أن القناعات، والآراء، والأديان، والمذاهب لا يمكن فرضها بالقوة، إنما يمكن التقارب حولها بالحوار للإقناع بها، أو تفهمها، أو العمل والتعاون على مشتركاتها، وغاياتها الإنسانية، وأن الانكفاء في دائرة الانغلاق الديني، والفكري هو الذي أوجد الكراهية، وأنتج التطرف، والتطرف المضاد، وأن المنطق البراغماتي بمفهومه السلبي له دور كبير في تجاوز المنطق العقلاني والأخلاقي، وبالتالي الحق الإنساني».
المرتكز السابع: التصدّي لأطروحة الصدام الحضاري، والتي تُعتبَر من أخطر المفاهيم التي راجَت مؤخرا، بعد أن نادى بها المفكّر (هنتنجتون)، وتبعه البعض الذين رأوا في الاختلاف بين الحضارات لازماً من لوازم الصراع وضرورة من ضرورات الاحتراب.
وقد تمّ الترويج الإعلامي لهذا الصدام الحضاري المزعوم على نطاق واسع، مما أنشأ موجة من الخوف والرعب والكراهية غير المبررة، استخدمه أصحابُ المصالح والمطامع في تحقيق مآربهم الخفية.
ولكن عقلاء الأمم والمجتمعات وحكمائهم تفطنوا لخطورة هذا الطرح ومآلاته على المستوى العالمي، وصرحوا برفض هذه الفكرة، وأنها لا تستند على أساس علمي أو واقعي يَدعمها، بل هي نتاج فكر أرعَن يراوح المراهقة، ولا تنمّ عن رزانة وحكمة ورويّة، وما هي إلا إفراز ونتاج لعُقدة الاستعلاء، وهي إشارة من طرف خَفي إلى أن فكرة الصراع ليست سوى حالة مرضية، يجب على العقلاء والحكماء أن يحصّنوا المجتمعات من مخاطرها.
وكان الشيخ العيسى في مقدمة هذه الكوكبة من الحكماء، حين قال في (ملتقى جنيف): «إن الاختلاف بيننا حقيقي وعميق، ولكنه لا يعني أن نَعيش حالة العداء والكراهية والاقتتال، فالله عز وجل خَلقَنا مختلفين؛ لنتعارف، لا لنَتقاتل: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"، وشمَلنا جميعا تكريم الخالق لنا بالإنسانية، والاختيار، والإرادة الحرة، وكلّلنا بتشريفه لنا بعمارة الأرض، وإقامة الحضارة الرشيدة، فــالاختلاف -مهما بلغ غَوره-لا يَمنع من رؤية المسائل التي يتفق عليها عقلاء الأمم، ومنها خطورة الصراع الحضاري الذي ترعاه عادة عُقدة التفوق والاستعلاء، إذ لم يَعُد بالإمكان لأي طرف أن يواجهها وحده، لأنها هموم مشتركة، لا تعترف بالحدود المكانية أو الحضارية، وتوشك إن لَم نواجهها معاً أن تترك جروحاً غائرة في مسيرة الحياة الإنسانية».
وفي هذا السياق أيضا، قال معاليه في (مؤتمر بروكسل): «لقد أراد الله تعالى منا أن نتعارف؛ لنتقارب، وأن نتقارب؛ لنتعاون، وأن نتعاون؛ لنكسِرَ حواجز البرمجةِ السلبية التي نشأ عليها بعضنا، هذه البرمجة التي صاغت سلبياً بعض العقول، والأفكار، والتوجهات، مصحوبةً بنظرة فردية تستطلع من زاوية واحدة، وتتلقى معلوماتِها من مصدر واحد، بعيداً عن منطق الإنصاف والوعي، وهذا بلا شك سيقودُ لمقدمةٍ خاطئةٍ، تبدأُ بخطأ التشخيص، ومن ثم خطأ المعالجة، بعد هذا سنكون جميعاً على موعدٍ متوقعٍ، مع فصل تاريخي جديد، يضعنا أمامَ نتيجةٍ حتميةٍ، لتلك الأخطاء الفادحة، هي الصدامُ الحضاريُّ».
وتركَّز نقْد الشيخ العيسى لهذه النظرية الصدامية من جهة مضمونها، وكذلك آثارها، واعتبرها ألعوبةً في يد العابثين بسلام العالم وأمْنه، وسببا في انزلاق خطير نحو الهاوية، بإدخال الثقافات والحضارات في دهليز لا تَخرج من ظُلماته أبدا، واستذكر معاليه في مؤتمر (نيويورك) تاريخاً طويلا في التعايش الإيجابي يكذّب هذه النظرية، ويفنّد حتميتها، حيث قال: «إن للتواصل الحضاري بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة تاريخاً ممتداً في التبادل والتعاون الإنساني والمعرفي والاقتصادي والسياسي، وإن العلاقة الحضارية المتميزة كشفَت الخطأ الفادح لنظرية صدام الحضارات المبنية على إثارة نعرة الكراهية والعنصرية، ونصْب حواجز وهمية ربما كانت في بعض أطروحاتها حادّة جداً حتى على القواسم المشتركة والتبادل المعرفي والإنساني، وهو مزلَق يتجه نحو انحدار خطير للعقل البشري في سياق خروجه عن جادّة التفكير السوي البعيد تماماً عن المفاهيم الحضارية».
وإذا كان الشيخ العيسى رفَض أطروحة الصدام والصراع، فإنه طرَح البديل الأسمى والأرقى؛ المتمثل في سنّة التكامل والتعارف، وهي وسيلة حضاريةٌ لنشر الأفكار والتصورات الإيجابية في الكون، من أجل ديمومة العملية الاستخلافية في عمارة الأرض وإصلاحها.
وكثيراً ما حذر الشيخ العيسى من المآلات الوخيمة لعاقبة الصدام، وأنه في كل أحواله لا يؤدي إلا إلى خسران الجميع على المستويين القيمي والواقعي، ولن يحصد مروجو الصدام إلا تأجيج الكراهية وإشعال الحرائق التي توشك أن يتطاير شررُها على الجميع، وهو ما أشار إليه معاليه بقوله: «هناك حقيقة لا يمكن لأي مستنير أن يتجاهلها، وهي أن السِّجال الديني والمذهبي والفكري المفضي للصدام والصراع بما يَحمله من كراهية وحقد وازدراء، لم يكن يوما من الأيام في صالح طرف على حساب طرف، فالكاسب في الظاهر ليس منتصرا حقيقةً، وإنما يُهيمن بقوته المادية فحسب، وهو في واقع حاله خاسرٌ لقيَمه، مُسيء لقضيته،
ولا كاسب مطلقا في صراع الكراهية والأحقاد المتبادلة، فالكلّ خاسر».
وشرع الشيخ العيسى بما حُبي من مواهب وإمكانيات في مواجهة هذه الأطروحة الزائفة بغرس الوعي لجني الأثر الإيجابي في التصدي لأفكار الصراع ومخططاته الوهمية، ففي المؤتمر الدولي بالأردن، قال معاليه : «لم تَنهض أمّة من الأمم إلا بوعيها، وما أعاق الوعيَ إلا استحكامُ الجهل، إنْ بانسداد الفكر في بيئات التصنيف والكراهية والتوظيف السلبي؛ حيث ضيقُ الأفق وحلقاتُ السجال العقيم التي زادت الأمةَ عنَتاً ومشقة، وطائفية وصداماً مُتَحَيِّنَة بيئاتِ الصراع السياسي لتُفَرخ فيها طفيلياتِ التطرف والإرهاب في تكاثُر مؤلم، تَمَدَّدَ في منطقة فراغٍ، يتحمّل طليعةَ مسؤوليةِ شَغْلِهِ علماءُ الأمةِ ومفكروها، وأنه أعاق الوعيَ أيضاً : المكابرةُ لمصالحَ سياسيةٍ أو ماديةٍ خَدَعَت الكثير بزُخرف قولها ومصايد دجَلها، في سياق يُفْترض أن يَتجاوز بزمنه المُتحضّر سذاجةَ استدراج الخرافة والتمويه، غير أن قاطعاً مُدهشاً يَفصل تلك العقولَ عن رُشدها عندما تعود لمُعتادها، وقد تعمّق في لا وعيها، فكانت -على سبيل المثال- رهانات مطامع الطائفية والكراهية وهوس الخرافة التي رفَضها الدين، وتجاوزها الزمن، وولّدت الطائفية، وفرَضت الصراعات».
المرتكز الثامن: المقاربة الأخلاقية والقيَمية، فالقيم هي جوهر الرسالات السماوية وروحها، وبها تتحقق سعادة الإنسانية وارتقاؤها، إذ بالأخلاق تستقيم حياة الأفراد والمجتمعات، وبها تُوزَن خطوات الأفراد والأمم والجماعات: إن صلُحت بقيت وعَزّت واستمرّت، وإن فسدَت فَنيت وذلّت وزالت، ومن هنا كان من أهم مقاصد البعثة النبوية الغراء: إتمام صالح الأخلاق ومكارمها، وبناء صرحها ودعائمها، وإشاعة روحها في نفوس أتباعها ليكونوا خير سفراء لهذا الدين الحنيف الذي قال رسوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمّم صالح الأخلاق»؛ لذا لم يكن من عجب أن يقول الإمام ابن القيم : «إن حُسن الخُلق هو الدين كلُّه، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام »، وقال أيضا: « الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين».
وحين اجتمع مفتو الإسلام وعلماؤه على (وثيقة مكة المكرمة) التاريخية، ضمنوها: «ترسيخُ القيم الأخلاقية النبيلة، وتشجيعُ الممارسات الاجتماعية السامية واجبُ الجميع، وكذا التعاون في التصدي للتحديات الأخلاقية، والبيئية، والأسرية، وَفْقَ المفاهيم الإسلامية، والإنسانية المشتركة».
والمقصود بهذه المقاربة: إيجاد مساحة مشتركة من المبادئ الأخلاقية السامية والقيم الإنسانية الرفيعة، تسع الجميع بمختلف توجهاتهم وعقائدهم، وتتجاوز فوارق الجنس والعرق واللون، وصولاً إلى تعاون وتآلف يعود على الجميع بالخير والسعادة.
ويظل نجاح هذه المقاربات الأخلاقية مرهوناً بما تَحمله الأطراف من رؤى واعية في واقعنا وتقلباته، وما تقدمه من حلول وأفكار تَمهد لمزيد من التلاقي والتقارب والتآزر على الخير.
وهذا ما يؤكد عليه الشيخ العيسى في كلماته التي يَفتتح بها المؤتمرات حول العالم، فقد جاء في كلمته في (مؤتمر أتباع الأديان) ما نصه: «إننا نجتمع ونحن أحوجُ ما نكونُ لدعم وئامنا، وتعايُشنا في سبيل تحقيق المزيد من إسهامنا في بنائنا الحضاري؛ لنملأَ بقُوَّتِنا الناعمةِ فراغَهُ الشاغر، وإن الإنسانية لا تزالُ تعاني من هذا الفراغ حتى اليوم، حيثُ خلَّف وراءه متاعبَ مدفوعةَ الثمن من قيمنا، ولا بد أن نكون أقربَ لوصفنا الإنساني والأخلاقي؛ فكلما ابتعدنا عنه، كلما فقدنا قدراً من استحقاقنا لهذا الوصف بقَدْر الهَجر والبُعد».
وفي هذا المؤتمر قدم الشيخ العيسى خلاصة مهمة تجاوز بها معوقات الماضي وتجاربه المريرة، حين قال: «ولعلنا نتفاءل كثيراً عندما نُحسن الظن بعزائمنا التي تُترجمها مثلُ هذه اللقاءات؛ لنرى بكل استشرافٍ، أن عصرنا هو عصرُ الفلسفة السياسية والأخلاقية، بعد أن أنهكتِ البشريةَ الصراعاتُ الدينيةُ، والمذهبيةُ، مُخلّفةً وراءها تاريخاً يَفتقدُ الوعيَ الحقيقيَّ بقيم العدالة والأخلاق، التي لا تقف عند نظريات أرسطو وأفلاطون وابنِ رشدٍ وغيرِهم من الفلاسفة، بل إننا جميعاً نختار ما يناسبُ قناعتَنا المشتركة التي تضمن لنا وِئَامَنا، وتعايُشَنا وتبادُلَنا الإنساني، والحضاري».
والشيخ العيسى -في مشروعه الحضاري- يقدّم بُعدا جديدا لمفهوم التديّن، يتمثل في تأكيده على أن التديّن ليس عقيدة وعبادة فحسب، بل هو خُلقٌ ناظمٌ للعلاقات الإنسانية بمستواها الأفقي، وهي جزءٌ لا يتجزأ من الدين بمستواه الرأسي، فهو علاقة مع الخالق قبل أن يكون علاقة مع المخلوق، ويستشهد العيسى بالسلوك الحضاري للمسلمين الذي حفّز الناس في الماضي على الدخول في الإسلام طواعية، وهو اليوم قادرٌ على تصحيح الكثير من التصورات الخاطئة لدى الآخرين حول ديننا الحنيف، لذا كثيرا ما يحث معاليه المسلمين على حُسن الخلق في التعامل مع الآخرين؛ ليقينه أن التعامل الحضاري وحده هو من سيحوّل القابعين في قوقعة العداوة والخصومة إلى رحابة التساكن والانسجام.
المرتكز التاسع: التحلّي بالحكمة وبُعد النظر، وتأتي أهمية هذه الحكمة في تحديث الخطاب الديني المعاصر وتجديده، في سياق واحد مع اختلاف الحُكم والفتوى باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والعادات، ومراعاة فقه الأولويات والموازنات، وترتيب المصالح والمفاسد، وضرورة مخاطبة الآخر بما ينسجم مع فهمه وإمكانية تقبّله، كما قال ابن مسعود: «ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تَبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»، وقال عليّ رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب اللهُ ورسوله».
وهذا المعنى المهم أكد عليه معاليه بقوله: «الحكمة -أياً كان زمنُها، ومكانُها، ورجالُها- هي مطلب العقلاء، بل هي البُعد الغائب، والحلقة المفقودة في كثير من أحوال عالَمنا اليوم».
والشيخ العيسى في خطاباته وكلماته كان له قصب السبق إلى الحكمة أنّى وجدها، فقد حباه الله تعالى انفتاحاً على حكمة الآخرين، ليضيف من عقولهم وتجاربهم إلى ما وُهِب من حنكة شاملة، ودراية واعية برعاية المصالح العامة، وإنجاز المهام الموكلة إليه بكل جدارة واقتدار.
لقد ظهرت حكمة معاليه وريادته في مجالات أهمها: مجال الحوار بين الأمم وبناء جسور التفاهم بين الثقافات المتخالفة، والقضاء على التوتر والقلق، والأخذ بيد الإنسانية نحو الخير والصلاح، وتقديم الحدّ الأدنى لتعايش سِلمي عالَمي لا ظالم فيه ولا مظلوم، وقيادة البشرية كلّها نحو التآلف والسعي الدؤوب لما فيه خير الجميع وصلاحهم وسعادتهم.
ففي مؤتمر إيطاليا، قال معاليه: «إن ممارسة لغة القوة الصلبة في صراع الأفكار، والثقافات كثيرًا ما تعود بالخسارة، بل تزيد في تعميق الصراع، وإن لغة الحكماء هي القوة الناعمة؛ إيمانًا منهم بأن الأفكار لا تواجه إلا بالأفكار، لأنها تقتلع نبتتها الفاسدة من جذورها، وقد أعطانا التاريخ عظة في هذا لا تنسى، لاسيما أن العنف باسم الدين لم يتمدد مطلقًا إلا في منطقة الفراغ بسبب عدم مواجهته، أو التساهل معه تحت أي ذريعة كان التقصير».
وعن أثَر الحكمة في تخفيف التوتر والصراع، قال معاليه في فرنسا: «إن الإسلام لم ينتشر إلا بسمعته الطيبة، والفكر لا يواجه إلا بالفكر، ودين الله انتشر بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولم ينتشر بالقوة، ولا بالمصادمة، ولا بالمصارعة الفكرية والحروب التي مع بالغ الأسف كانت بين المسلمين أنفسهم قبل أن تكون مع أية جهة أخرى».
وبنحوه قال الشيخ في مؤتمر (بروكسل): «الصدامُ يقود إلى مواجهات لا تنتهي إلا بخسائر فادحةٍ على الجميع، ثم في نهاية مطافها تعود إلى مربّعها الأول في حلقات دَوْر لا يُوقفها إلا منطق الحكمة، والإنصاف والوعي».
كما يحرص معاليه على توجيه الشباب نحو الاعتدال والحكمة، وتحذيرهم من تغلّب العاطفة المجردة عليهم، داعياً إلى أخذ العِبر من الآخرين الذين اغتروا ببعض تلك المظاهر، ومارسوا السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، فقال في هذا السياق: «إن من أشد المخاطر الانزلاق نحو العاطفة الدينية المجردة البعيدة عن البصيرة والوعي؛ لأن ذلك يرتدّ سلباً على الشخص ذاته، وعلى صورة دينه لدى الآخرين فكثير منهم -من غير المسلمين- يتشكّل التصور عنده من مثل تلك التصرفات الفردية، ونتجَت عن ذلك خسائر كبيرة، حَمَلت بعضهم على إيجاد قوانين ذات تدابير وقائية من جهة، وتزيد في موضوع الاندماج، حتى وصل في بعض الأحيان لمفهوم الانصهار من جهة أخرى».
المرتكز العاشر: استثمار وتفعيل المشتركات الإنسانية، وهي القيم والمبادئ التي فطر الله بني آدم على اعتبارها والتخلق بها، وأقرّتها الأديان السماوية، وارتضتها العقول السوية، ولا تختص بأمّة ولا حضارة ولا دين، بل هي قيم جامعة في قضايا مشتركة، وتمثّل إحدى أهم جسور التعايش بين البشر لتعلقها بمصالحهم ووجودهم على هذه الأرض.
من أجل هذا جاء المشروع الحضاري للشيخ العيسى بتبنّي هذه القيم المشتركة وجعْلها من المرتكزات الرئيسة في منهجه الحواري، وذلك أثناء مناشطه الدولية، فعمل على استثمارها وتفعيلها، لحِفظ الأخوة الآدمية وتحقيق الوحدة الإنسانية، وصيانة الأنفس والأديان والأموال والأعراض والعقول.
وقد ذكر معاليه في كلمة (بورندي) بأن العقلاء يختلفون، لكن لا يفترقون، وإنما يتحاورون ويتسامحون ويتبادلون حب الخير، تَجمعهم المشتركات بأهدافها الوطنية والإنسانية.
وأشار في محاضرته في (سانت بطرسبرغ) إلى أن مساحة المشترك بين البشر ليست قليلة أو ضيقة، بل هي أوسع مما يُتصور، حيث قال: «إن المشتركات الإنسانية كثيرة».
ولفَت معاليه النظر -في خطبة الجمعة التي ألقاها بـ (قازان)- إلى أن المشترك الإنساني ليس منفصلا عن الدين وبعيدا عنه، بل إن عموم أحكام الشريعة الإسلامية تمثّل مشتركات إنسانية يتفق عليها العقلاء والحكماء.
وكانت لمعالي الشيخ العيسى كلمات فاصلة حول المشترك الإنساني، ألقاها في مختلف المناسبات الدولية، ففي ببروكسل، قال معاليه: «الدين الإسلامي قرر قاعدة منطقية، وهي أن القناعات الداخلية لا تُفرَضُ، كما قرر أنه لا يمكن أن يكون الناس كلهم على منهج واحد، ولكننا ندعو إلى التفاهُم والتعايُشِ، وأن نجعل من المشتركات أدوات التقاء وتعاون، وألا تكونَ مناطقُ الاختلاف الديني، والسياسي، والثقافي، والفكري، ولا أخطاءُ التشخيص، سبباً للأحقاد والكراهية، التي تُعتَبر المغذي الرئيس للتطرف والإرهاب».
وفي مؤتمر (قادة الأديان) شدد معاليه على «أهمية المحافظة على قيم فطرتنا الإنسانية المشتركة التي لا تعَبِّر فقط عن خاصية دينية، ولا فكرية، ولا ثقافية معينة، بل عن إنسانيتنا كبشَرٍ، ميَّزنا الخالقُ بعقولنا وقِيَمِنا المشتركة عن بقية المخلوقات، ويجب أن نُحافظ على طبيعةِ هذه الإنسانية، حتى لا تتحول إلى طبيعةٍ أخرى»، قائلا في هذا السياق: «إنه لم تَسعد الشعوب، ولا الدول، ولا البشرية جمعاء في رغدها، وأمنها، واستقرارها إلا عندما حَفِلَتْ بالعدالة والأخلاق وغيرها من القيم الإنسانية المشتركة، والاختلاف الديني والثقافي في تلك القيم لا يطال في الغالب هدفَها المعيشيَّ البحت، أما الجوانب الروحية فلكلٍّ منا فيها قناعتُهُ الإيمانيةُ التي يجب تَفَهُّمُها، كما يجب أن نتقاسمَ معاً مشتركاتِ الفضائل وهي كثيرة جداً، ومِنْ ثَمَّ نعمَلَ عليها».
ويرى معاليه أن هذه المشتركات هي البديل الأمثل للصراع والاحتراب، حيث يقول: «هذا الاستيعاب يُجنّبنا الصدامَ، وأننا بالوعي المنشود نستطيع مواجهة كافة أساليب الهيمنة الفكرية والثقافية التي لا تَطْرَحُ رؤيتها في سياق حضاريٍّ وأخلاقيٍّ يستدعي حُرِّيةَ الاختيار، وإنما تَحْمِلُ في أجندتها همجية الفرض لذات الفِكْر، أو توظيفِ الفكر لأهداف أخرى».
وهكذا، فإن دعوة الشيخ العيسى لتفعيل هذه المشتركات تنبع من قاعدة أصيلة في الإسلام، وهي لا تعني أبدا الذوبان في الثقافات الأخرى أو استبدال هُوية بأخرى، أو تنكّبٌ عن قيمنا ومبادئنا الراسخة، أو تكريسٌ لانهزاميتنا، أو التلاعب مع ثوابت ديننا؛ وإنما تعني الوعيَ بسنّة الله تعالى في وجود التنوع والاختلاف، والاعتراف بالآخر واحترامه، وحُسن التعامل معه، من أجل الإسهام في بناء الأمّة الإنسانية المتساكنة بأمان ونماء، ضمن دائرة المشتركات الواسعة التي يكفي الالتقاء على عُشْرِها في صناعة عالَم أجمل وأسعد ، فكيف لو التقَت البشرية على جميع المشتركات ، كما جاء تأكيده في كلمة لمعاليه تستحق أن تروى وتدرّس، حين قال: «إن عشرةً بالمائة فقط من مشتركاتنا كافية لإحلال السلام والوئام في عالَمنا»، تلك الكلمات التي تلقّتها مختلف القيادات الدينية العالمية بترحاب كبير، وأشعرتهم بأن العيسى شريك حقيقي في صناعة السلام المستدام، وأن تعزيز قيم المشترك الإنساني واستثمارها هو وحده الكفيل بنزع فتيل التوتر بين الشعوب والأديان والثقافات، والتقليل من النزاعات والصدامات.
وفي الختام، فإن معالي الشيخ العيسى استطاع من خلال مشروعه الفكري حول (الحوار الحضاري) تحقيق جملة من المكاسب والإيجابيات التي تُثري الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولعل أبرزها: