لا تزال الأمّة المسلمة تستحضر في مسيرتها الحضارية ماضياً مشرقاً، وتبني واقعاً واعداً تستشرف به مستقبلاً أفضل، يقدم إسهامًا حقيقيًا وإضافةً نوعيةً في خدمة الإنسانية في مختلف العلوم والمعارف، ليضاف إلى الجهود العظيمة التي تبذل في تجاوز العثرات والعقبات، واحتواء التحديات والأزمات. وتسجل الأمة المسلمة حضورها الإيجابي بين الأمم، وتجاوبها الجاد مع الأحداث والمستجدات في صورة مشاريع مفيدة، وفعاليات مؤثرة، ومبادرات مميزة، تتقدم بها إلى عالم يئنّ في زحمة الصراع والشقاق، وتهدف إلى نشر الوعي العلمي الصحيح، وصناعة التميز الحضاري، وإظهار الصورة الحقيقية النقية للرسالة الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين.
وفي هذا المقام تميزت المبادرة المباركة التي قدمتها رابطة العالم الإسلامي بمكانتها الإقليمية والدولية، وشعبيتها العالمية، ورمزيتها العلمية والفكرية والروحية، فضلا عن دورها المحوري في مختلف القضايا العالمية، فهي المؤسسة الإسلامية الكبرى التي تحظى بعضوية واحترام الآلاف من العلماء والمفكرين والقادة الدينيين، إضافة إلى رصيدها الوجداني الكبير في قلوب الملايين من المسلمين حول العالم، وتميزها بمنهجها الوسطي الحكيم. وقد توّجت هذه الثقة حين أهدت العالَم من مهبط الوحي ومنبع الرسالة المحمدية وثيقة تاريخية هي (وثيقة مكة المكرمة) التي اعتمدها أكثر من (1200) مفتٍ ومرجعٍ وعالِمٍ مسلمٍ، إضافة إلى تأييد أكثر من (4500) مفكر ومسؤول قيادي لها، يمثلون (27) مكونًا إسلاميًا من (139) دولة من مختلف المذاهب والطوائف الدينية حول العالم. وكان ميلاد الوثيقة في ختام أعمال المؤتمر الإسلامي العالمي الذي دعا إليه معالي الأمين العام الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى - حفظه الله - ونظمته الرابطة في مكة المكرمة- بجوار بيت الله الحرام في شهر رمضان من عام1440هـ، بعنوان (قيم الوسطية والاعتدال في نصوص القرآن والسنة). وقد تشرف وفد من المؤتمر بتقديم الوثيقة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله وأيده- في استقبال رسمي بهيج، لتحصد بذلك المزيد من علامات التوفيق والتأييد، وتحظى بالاهتمام الرسمي والشعبي على المستوى الإقليمي والعالمي.
إن (وثيقة مكة المكرمة) ليست عملاً مرتجلاً أو استعراضيًا، بل هي خلاصة جهود كبيرة، وعصف ذهني نتجت عن دراسات معمّقة وقراءات متواصلة وأبحاث أكاديمية متقدمة، عبّرت عن وعي مسؤول بضرورة الفعل الحضاري، والعمل الاستراتيجي، للحد من الانتشار الواسع والتسارع المخيف والتزايد المهول لخطاب الكراهية والعداء والتمييز العنصري والتخويف من المسلمين، والإساءة إلى مقدساتهم، واتهام دينهم ووصمه بنعوت سلبية كالتطرف والعنف والإرهاب والانعزال، في تجنّ سافر على أكثر من مليار ونصف من المسلمين، المؤمنين بالتعايش والحوار، فكان هذا الاتهام مدعاة لإجراءات غير متوازنة مع المسلمين ومساجدهم ومؤسساتهم في عدد غير قليل من دول العالم، علاوة على أنه خَرق غير مقبول للمواثيق والاتفاقيات الدولية، الداعية إلى تعزيز الحوار بين الحضارات والثقافات، والتعايش السلمي بين أتباع الديانات.
هذه الوثيقة المرجعية التي انبثقت عن اجتماع آلاف المفكرين والعلماء من كل دول العالم، هي امتداد لقيم ومبادئ الإسلام العليا التي أسستها (وثيقة المدينة المنورة) المباركة، التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود وغيرهم قبل أربعة عشر قرنًا.
ذلك بأن الله تعالى يبعث لهذه الأمّة من يجدد لها أمر دينها، كما ثبت ذلك في الحديث الشريف، فبعد أن انطمسَت معالم قيم الوحي بين الناس، واندرسَت آثارها، ووصل الواقع الاجتماعي والعالمي إلى ما وصل إليه، بعيدًا عن القيم النبيلة، والمُثل العليا، ظهرَت هذه الوثيقة الجامعة التي انبثق نورها بجوار البيت العتيق لتنعكس آثارها الإيجابية على مرآة العالم الإنساني.
جاءت هذه الوثيقة التاريخية الحضارية الاجتماعية المباركة بموادها التي بلغت (29) بندًا، لتكون منطلقًا لتأسيس منظومة تشريعية تساهم في تحقيق الأمن الاجتماعي، وأرضية صلبة تقوم عليها قواعد السلام العالمي، حيث دعَت إلى إرساء قيم التعايش والإخاء والمشترك الإنساني، وتحقيق التقارب والتعارف بين الشعوب ومكونات المجتمع الإنساني كافة، والـتأكيد على أن الجماعات المتطرفة لا تمثّل الإسلام، وإنما هي جماعات تصادر الدين وتتاجر به، متجاوزة كافة الجهات والمؤسسات الإسلامية العالمية التي تؤمِن أن المسلمين جزء من هذا العالم، فلا يسع أحدًا التنصل من مسؤولياته أو النكول عن واجباته في التواصل مع كافة مكوناته؛ لتحقيق صالح البشرية، وتعزيز قيمها النبيلة، وبناء جسور المحبة والوئام المجتمعي.
وسعياً من (وثيقة مكة المكرمة) لتحقيق الأهداف السامية للحياة الإنسانية، وتأسيس مجتمعات بشرية تقوم على الأخوّة والتآلف، فإنها تضمّنت مجموعة من المفاهيم الإسلامية المعبّرة عن رؤية أصيلة ومتجددة، مصدرها الوحي الرباني، وأُفُقها الانفتاح الواعي المتوازن على مستجدات العصر ومنجزاته، واستيعاب تطوراته المتلاحقة ومعطياته المتسارعة، والمساهمة في معالجة القضايا المتجددة التي تثير اهتمام الأسرة الدولية، والانخراط في صلب الحركة الإنسانية الواعية، إسهامًا في تعزيز قيم الحوار والتفاهم والتعايش والاحترام المتبادل التي جاء بها الدين الإسلامي، وبشّرت بها الشرائع السماوية، فضلاً عن مواكبتها لمتغيرات الواقع العالمية وتحولاته الاجتماعية.
وتهدف المبادرات التي تضمّنتها (وثيقة مكة المكرمة) إلى تشكيل عهد جديد في التعاون الدولي والإنساني لنشر قيم السلام والأمن والعيش المشترك من منظور إسلامي متشبّث بثوابته الشرعية، ومنفتح على الآخر، في ظل القيم والأخلاق والمصالح المتبادلة، ومبادئ الشرعة الدولية، كما تهدف إلى التخطيط لمرحلة جديدة من العلاقات الإيجابية بين المسلمين وبقية شعوب العالم، مستندة إلى رؤية إستراتيجية كلية نسقية تعتبر الحوار الحضاري أفضل السبل لاستعادة الثقة وبناء جسور التفاهم السوي مع الآخر، وتجاوز معوقات التعايش ومهدداته.
كما تسعى هذه الوثيقة العالمية من خلال رؤيتها الأصيلة والراسخة في الثقافة الإسلامية إلى زرع روح المحبة والتعاون والتسامح بين مكونات أوطاننا المختلفة، وإقناع الأجيال الصاعدة بأن الصراع والصدام في عالم اليوم صورة مقيتة تفضي إلى نشر الكراهية والعنف، واستنبات العداء بين الأمم والشعوب، ويحول دون تحقيق مطلب العيش المشترك في أمن وسلام.
لذلك جاءت موادها وبنودها بهذه الشمولية والتكاملية واستيعاب مجالات متعددة ومتنوعة، منطلقها: الوحي الإلهي، ومقصدها: تحقيق سعادة الإنسان واحترام كرامته الآدمية وصون حقوقه الإنسانية، وضمان أمنه الأسري والاجتماعي، وتحسين رفاهيته وأحوال معيشته، حيث دعَت إلى سنّ التشريعات الرادعة لمروّجي الكراهية، والمحرضين على العنف والصدام، والتصدي لانتهاك حقوق الإنسان في مفهومها الشامل، ومكافحة الإرهاب والأفكار المتطرفة، ومعالجة الانهيار القيمي والأزمات الأخلاقية والاجتماعية والبيئية التي تعاني منها البشرية. واعتبرت الوثيقة أن الاعتداء على البيئة، والاستهلاك المفرط لمواردها الطبيعية وإهدارها وتلويثها تجاوز واعتداء على حق الأجيال القادمة للعيش في بيئة نقية سليمة، كما دعت إلى تشجيع تعاون العالم الإسلامي مع المجتمع الدولي من خلال التواصل وبناء جسور الاحترام والوئام الإنساني، والتصدي للتمييز العنصري والتعصب الطائفي وسلبيات الكراهية والتخويف غير المبرر من الإسلام (الإسلاموفوبيا).
وتميزت الوثيقة بمساهمتها الفاعلة في الدعوة إلى ترسيخ قيم العدل والسِّلم الاجتماعي، وتعزيز آلية التعايش السعيد والتعامل الحسن بين أتباع الأديان والثقافات، وتوفير مقومات العيش الكريم والحياة الآمنة، وإقرار الاختلاف والتنوع الديني والثقافي في المجتمع الإنساني من خلال إقامة شراكة حضارية إيجابية قوامها الحوار والتفاهم والتعاون والعدل والاحترام المتبادل لخدمة الإنسان وإسعاده، ونشر السكينة في المجتمعات المعاصرة، والضرب على أيدي العابثين ومثيري الفتن والفوضى وحماية الأوطان من إفسادهم وجرائمهم.
كما تؤكد الوثيقة على ضرورة احترام المواطنة الشاملة، والولاء الصادق للوطن، والمحافظة على الأمن، ومكافحة التطرف والإرهاب، ورعاية حمى المحرمات والمقدسات، والتمكين المشروع للمرأة، والحد من تهميشها وامتهان كرامتها، وتفعيل أدوارها في التربية والتنمية المستدامة، والعناية الكاملة بالأطفال صحة وتربية وتعليماً، وتعزيز هوية الشباب المسلم.
إن هذه الوثيقة العالمية باختصار، تعزز أسس ومرتكزات قيم التعايش مع الآخر أيّا كان معتقده وجنسه ولغته وعرقه، مما يسهم في بناء مجتمع إنساني عالمي مشترك، يستوعب القوميات والأعراق والشعوب كافة، ويشيّد أعظم صرح للإنسانية جمعاء؛ صرح التعارف والاحترام والتعاون والإخاء.
كما ترسخ أسمى القيم الحضارية، وتوضح المبادئ الإنسانية القويمة؛ حيث استبدلت مفهوم الإنسانية القائمة على الوفاق والتعارف والتفاهم مع حفظ الخصوصيات الثقافية والدينية لكل مكونات المجتمع البشري، بمفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل.
هذه الدلالات والمعاني الإنسانية، والمضامين والمفاهيم الحضارية والثقافية التي تضمّنتها الوثيقة، جعلتها تحظى بالتقدير البالغ والاهتمام الكبير من قبل الحكومات والقيادات السياسية والدينية، وكذا المؤسسات الرسمية والشعبية وصانعي القرار حول العالم، وكان من أبرزها وآخرها: إقرار بنودها من قبل مجلس وزراء الخارجية في منظمة التعاون الإسلامي في دورته السابعة والأربعين المنعقد في (نيامي عاصمة جمهورية النيجر) في نوفمبر من عام 2020م، حيث أكدت الدول الأعضاء في المنظمة على أهميتها، ودعت المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي إلى بدء العمل بنشر محتوياتها وتنفيذ بنودها، لتوافقها مع المبادئ والأهداف المنصوص عليها في ميثاق منظمة التعاون الإسلامي.
كما حظيت الوثيقة بتتويجها ونيلها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام (لعام 1441هـ)، باعتبارها النموذج الأمثل للخطاب الديني المعاصر، وكونها تمثل دستورًا تاريخيًا لتحقيق السلام وحفظ قيم الوسطية والاعتدال.
ومما يؤكد على أهمية هذه الوثيقة في الوقت الحاضر وعالميتها: جامعية مضامينها وبنودها التي تلقي بظلالها على خير الإنسانية ونفعها في كل وقت وتحت أي ظرف دون تمييز أو تفريق، معبّرة عن نظرة الخطاب الإسلامي المستنير لخاصية التنوع البشري، داعية للحوار والتواصل الحضاري، وتكريس ثقافة الأخوة الإنسانية في مواجهة عاديات الشر وأفكار التطرف والكراهية والصدام الحضاري، لتشكّل الوثيقة بذلك ميثاقًا عالميًا لإرساء السِّلم المجتمعي، ونقل البشرية من المعترك إلى المشترك، وهي في الوقت نفسه بمثابة دستور وقانون عام يحمي المجتمعات والأوطان في إطار التسامح والتعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب. وتمثّل الوثيقة خارطة طريق لمستقبل الإنسانية وتجانس مكوناتها، وتحدّد بشمولية وبُعد نظر آفاق العمل الإنساني المشترك، خدمةً لعموم الإنسانية، وتحقيقًا لمقصدي العمران البشري، والاستخلاف الإلهي.
من أجل ذلك، لم تكن هذه الوثيقة العالمية خاصة بدين دون آخر، أو مذهب على حساب مذهب، وإنما استوعبت الأديان كلها والشعوب جميعها، وتؤكد -مثل وثيقة المدينة المنورة - أن للآخر ما لنا وعليه ما علينا. فآفاقها واسعة، ورؤيتها بعيدة، وأبعادها متعددة، من أجل صالح الإنسانية قاطبة، ونفع البشرية عامة.
وختاما يمكن القول: إن هذه الوثيقة وُلدت في لحظة تاريخية مناسبة اشتدت فيها حاجة البشرية إلى تحديد المفاهيم، وتوضيح المصطلحات، ووضع الآليات، وتصحيح الرؤى والتوجّهات، وتصميم المسارات بروح الوسطية والاعتدال، لتكون بذلك الوثيقة قاعدة الانطلاق لعصر جديد ترفرف في سمائه رايات الأخوّة والسلام، وتعمّ في أرجائه روح المحبة والوئام، فاستحقت بذلك أن تعدّ (ميثاق الحضارة الإنسانية المعاصرة)، لتُسهم في إنشاء نظام عالمي جديد، ووضع قانون حضاري متكامل، أساسه: الوحي، ومرتكزاته: العدل، والإنصاف، والمساواة، والاحترام المتبادل لحقوق الإنسان، وآفاقه: بناء مجتمع إنساني فاضل تسوده القيم والأخلاق والمبادئ والمُثل، وعالَم يطغى فيه الخير على الشر، وينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار، ويعمّه الرخاء والازدهار.
المصدر : مجلة الرابطة - العدد 664